خوشناف سليمان
لا يبدو أن أحدًا يعرف بدقة من يحكم سوريا اليوم. ليس لأن السلطة غائبة. بل لأن الأمر لا يتعلق بالسلطة بل بالقرار. القرار لم يعد سوريًا. ولا يصدر من مركز واضح. بل يتوزع بين مراكز متعددة أغلبها خارج الجغرافيا. وفي حين يُصرّ البعض على الحديث عن مفاوضات و حلول. وتسويات. يزداد المشهد تعقيدًا مع كل خطوة يُفترض أنها باتجاه – الدولة – لكنها تنتهي إلى إعادة تدوير الخراب.
ما يجري في سوريا ليس حربًا أهلية بالمعنى التقليدي. ولا حتى صراعًا على السلطة بين طرفين. ما نشهده هو انهيار شامل لمفهوم الدولة. وتحوّلها إلى أرض مباحة لكل أشكال الفوضى والعنف والتوظيف الأمني والسياسي والديني والاقتصادي. الدولة. بما هي جهاز يخدم المجتمع ويحفظ توازنه. لم تعد قائمة. وما تبقّى منها هو واجهة متهالكة تخضع لتوازنات خارجية ولا تملك حرية الفعل أو القرار.
– شبكات عنف لا تنتهي
في هذا المشهد. تتكاثر أدوات العنف. وتتعدّد مصادر التمويل. وتتشابك المصالح. فتتشكل تحالفات مؤقتة تحت شعارات متناقضة. من – الدولة الإسلامية – التي تحوّلت إلى ملاذ للفارين من القانون وتجار السلاح. إلى عصابات تهريب المخدرات. إلى شبكات أمنية دولية تعبث بالميدان السوري دون رقيب. وبين هذا وذاك. تلوّح الحكومات ببياناتها. بينما الأرض تُنهب والسكان يُهجرون والمدن تُحرق. ولا أحد يتحرك.
– داعش – لم تكن مجرّد تنظيم متطرف. بل تحوّلت إلى مظلّة لاستيعاب القتَلة. والجبناء المُجبرين على القتل. و العناصر الخارجة عن القانون. ومجرمي الحروب. وجواسيس الأنظمة. وتجار النزاعات العابرة للحدود. هي مشروع مدعوم بذكاء مخابراتي. وأجندات إقليمية. و مولته تناقضات النظام العالمي ذاته. ولذلك. ما زالت قادرة على العودة. بلباس مختلف. أو بتحالف جديد.
– الحوارات الشكلية و سراب الحل.
وفي قلب هذه الفوضى. تتكرر الدعوات إلى الحوار. إلى طاولة تجمع النظام وما يسمى المعارضة. أو تجمع الإدارة الذاتية في الشمال الشرقي والنظام المركزي في دمشق. آخر هذه المحاولات تلك التي يُجريها الجنرال مظلوم عبدي باسم قوات سوريا الديمقراطية. سعيًا لفتح مسار تفاهم مع الحكومة.
لكن الواقع يفرض شيئًا آخر.. لا أحد من الطرفين يملك القرار. حتى لو حضر المجتمع الدولي. حتى لو جلس الفرنسيون و الروس والأمريكيون على طرفي الطاولة فإن مصير هذه الحوارات يظل معلقًا بإرادة لا تتشكل في سوريا. بل في أنقرة وموسكو و واشنطن و وطهران وتل أبيب.
كل طرف يمارس التفاوض من موقع الوكالة. لا من موقع السيادة. وبالتالي. فإن الحديث عن حل داخلي في ظل هذا الوضع يبدو خارج المنطق. لا تفاهم حقيقي دون استعادة للقرار الوطني. ولا جدوى من أي تفاوض دون معالجة جذرية للواقع الذي أنتج الفوضى. وأهم مظاهره اليوم.. السلاح المنفلت.
– فوضى السلاح .. و نهاية فكرة الدولة
لم يعد السلاح في سوريا أداة دفاع. بل صار جزءًا من الهوية اليومية. في كل بيت تقريبًا هناك سلاح. و ممكن الاستحواذ على أسلحة غير خفيفة. الفصائل والميليشيات تجاوزت الدولة في القوة والقدرة على التأثير. القانون غائب والأمن موزّع والسيادة مفككة. من يملك السلاح يفرض خياره مهما كان خارجًا عن المنطق أو القانون. وفي هذا السياق. تستحيل فكرة الدولة. لأنها تنهض أصلًا على احتكار القوة الشرعية. لا على توزيعها بين الميليشيات والعشائر والمتاجرين بالموت.
– المجازر المغيبة .. سويداء نموذجا
إحدى الجرائم الكبرى التي لم يتم التعامل معها بجدية حتى اليوم. هي المجازر التي ارتكبت بحق أبناء الدروز في السويداء ومحيطها. لم تكن تلك الجرائم فعلًا عابرًا أو نتيجة فراغ أمني فقط. بل عملية قتل منظّمة. شاركت فيها ميليشيات عشائرية قدمت من كل مكان على امتداد سوريا بناءً على أوامر مباشرة من أمراء – الدولة الإسلامية – في محاولة لتثبيت نفوذ الجولاني في المنطقة. بدعم غير مباشر من شبكات أكبر.
هذه الحقيقة. رغم فظاعتها، تمّ تجاهلها رسميًا أو التنصل منها. لا سيما من قبل حكومة دمشق. التي تركت تلك المناطق دون حماية. وسمحت بتكرار نمط من القتل الطائفي المنهجي.
حين تُستباح منطقة بكاملها. ويُقتل سكانها تحت ذريعة – محاربة الكفر – وتُترك العشائر المسلحة تعبث بأمنها بتواطؤ مع أجهزة تدّعي حماية البلاد. فإن الحديث عن – دولة – يصبح أقرب إلى المهزلة.
– شمال شرق سوريا … بذرة الممكن
رغم الانهيار العام ثمة استثناء يستحق التأمل.. شمال شرق سوريا. هذه المنطقة. رغم الحصار ورغم الحروب و رغم محاولات العزل ما زالت تحافظ على شكل من أشكال الإدارة المدنية. وتوفّر حدًا من الأمان. وتؤمّن شكلًا من أشكال التوازن بين المكونات. لا تدّعي الكمال. ولا تمتلك كل الإجابات. لكنها تطرح نموذجًا واقعيًا لما يمكن أن تكون عليه سوريا المستقبل.. إدارة محلية ذاتية تشاركية. تستند إلى القوة حين تقتضي الضرورة. لكنها لا تلغي القانون.
ما يُبنى هناك لا يزال هشًّا. ومهددًا من الخارج والداخل معًا. لكنه يبقى النموذج الوحيد القائم على فكرة التعدد والعدالة. لا على منطق الغلبة أو التسلّط الطائفي. وفي ظل غياب مشروع وطني جامع. يمكن لهذا الاستثناء أن يشكّل نواة صلبة لسوريا الجديدة إذا توفرت له الإرادة والدعم.
سوريا لم تنتهِ. لكنها لم تبدأ من جديد أيضًا. لا يكفي أن تسقط الأنظمة كي تولد الدول. لا يمكن أن تُبنى دولة بينما القرار موزع على العواصم. والسلاح مباح والدم مباح أكثر.
ولا يمكن لأي طاولة حوار أن تُثمر ما دامت الحقيقة محجوبة. والجريمة بلا مساءلة.
نقطة البداية لا تكون في المؤتمرات. بل في الأرض في المجتمعات التي قاومت وفي المناطق التي حافظت على فكرة القانون وسط الفوضى. من هناك فقط تبدأ سوريا الجديدة.