بوتان زيباري
الريح التي هبّت من جبال قنديل لم تكن مجرد نسمة عابرة، بل صوت أرض تئن تحت وطأة اتفاقية ماتت على الورق لكنها ما زالت تحكم بالسجون والمنافي. لوزان، تلك الوثيقة التي وُقّعت في ظل غياب الكورد عن طاولة القرار، لم تكن نهاية المطاف، بل كانت بداية طويلة من النسيان المتعمد، من التقطيع الجغرافي والنفسي للجسد الكوردي الواحد. لكن اليوم، وكأن التاريخ يعيد نفسه بحلقة جديدة، تبدأ خطوط خريطة الشرق الأوسط بالتغير، لا بفعل القبائل أو السلاطين، بل برسم دقيق من قوى لم تكن يومًا صديقة، لكنها اليوم، وربما لأول مرة، تجد في انهيار الخريطة القديمة فرصة لإعادة تعريف المنطقة. الولايات المتحدة، فرنسا، بريطانيا، وإسرائيل، كلٌّ بحساباته، تتحرك نحو ترتيب جديد، حيث لم تعد حدود 1923 قابلة للبقاء كما هي. ولأن تركيا تعرف جيدًا أن هذه الخريطة الجديدة قد تهدد كيانها الاستراتيجي، بدأت تهرع، ليس بالدبابات، بل بالكلمات، بالهمس، بالوعود التي تشبه العسل المسموم.
في الزاوية الأخرى، هناك رجل يقبع في سجن إمرالي، اسمه عبدالله أوجلان، مؤسس وقائد حزب العمال الكوردستاني (PKK). وها هو النظام التركي، الذي اعتقله، وأدانه، وحول حياته إلى حصار مديد، يرسل الآن رسائل خفيفة، مواعيد غير مباشرة، عروض “مصالحة”، شروط: فقط أعلن حل الحزب، ضع السلاح، قل كلمتك، وسنطلق سراحك. كأن الحرية يمكن أن تُشترى بكلمة واحدة، كأن الكفاح الطويل عبر عقود يمكن أن يُختزل في بيان صحفي. لكن خلف هذا العرض، ليست النوايا الحسنة، بل حسابات أكثر قسوة. تركيا لا تخشى السلاح فقط، بل تخشى المشروع البديل، تخشى الإدارة الذاتية في غرب كوردستان، تلك التجربة التي حوّلت المدن المحطمة إلى نموذج للعيش المشترك، حيث المرأة تقود، والعرقيات المختلفة تتشاور، والديمقراطية تُمارس بدم حقيقي. لهذا، فإن الإفراج عن أوجلان ليس هدفًا بحد ذاته، بل وسيلة لتبرير إنهاء هذه التجربة، لأنها إذا استمرت، فقد تصبح عدوى لا يمكن احتواؤها.
وهنا، يعود الشبح القديم من قبره، شبح حسن خيري، النائب الكوردي الذي وقف يومًا في البرلمان التركي بزيّه الكوردي الأصيل، ليس طلبًا للتميّز، بل اعترافًا بالهوية. طلب منه أتاتورك أن يرسل برقية إلى لوزان يقول فيها إن الكورد يقبلون بالعيش مع الترك، وأن لا مطالبة لهم بدولة مستقلة. فعلها خيري، ووقع الأوروبيون، وانتهى الحديث عن كوردستان. وبعد أيام، أُعدم. وعلى حبل المشنقة، قال: “احفروا قبري على طريق يمر به الكورد، ليُبصقوا عليّ كلما مروا”. كلامٌ لا يُقال إلا من قلبٍ يحترق بالنار، من رجل عرف أنه باع اللحظة الفاصلة بين الاستعباد والحرية. لم يكن خائنًا بنيّة، بل كان ضحية وهمٍ صنعه نظامٌ يعرف تمامًا كيف يستخدم الكلمة بدل الرصاص حين يلزم ذلك.
والآن، بعد مئة عام، تُعاد نفس اللعبة. نفس الأدوات، نفس السيناريو، نفس الشخصيات بوجوه مختلفة. أردوغان يلعب دور أتاتورك، وأوجلان هو خيري الجديد، والسجن هو المكان، والبرقية هي الطلب. الفرق الوحيد أن العالم اليوم ليس كما كان في 1923. لا يمكن إخفاء الحقيقة وراء ستار الدبلوماسية، فالكاميرات تسجل، والرأي العام يُسمع، والشعوب تعرف أن الحرية لا تُمنح بالصفقات، ولا تُبنى على الخدع. المجتمع الدولي، بقيادة أمريكا وإسرائيل، قد لا يكون صديقًا دائمًا، لكنه اليوم، وفي هذه اللحظة بالذات، يرى في إنهاء هيمنة تركيا على شمال سوريا فرصة استراتيجية. وهذا لا يعني أن الثقة يجب أن تُمنح، بل أن الفرصة يجب أن تُستثمر.
على الشعب الكوردي، وعلى إدارة غرب كوردستان، وعلى أوجلان نفسه، أن يقرأوا التاريخ لا كدراما مؤلمة، بل كتحذير حي. لا يمكن أن تُكرر الخطيئة نفسها باسم السلام، ولا يمكن أن يُقدَّم المشروع الوطني على طبق من ذهب مقابل وعودٍ لا تملك من الحقيقة سوى الصدى. التعاون مع القوى الدولية لا مانع منه، بل هو ضرورة، لكن بشرط ألا يكون على حساب الجوهر. لا تنازل عن حق تقرير المصير، لا تنازل عن التجربة الديمقراطية، لا تنازل عن الدم الذي سُكب من أجل أن تبقى روجآفا حية.
الخيانة لا تأتي دائمًا بوجه عدو، أحيانًا تأتي بثوب صديق، بابتسامة، بصفقة، ببرقية. وحين يُكتب التاريخ، لن يُسأل الناس عما فعلوا، بل عما صمتوا عنه. لذا، فليكن موقف الكورد واضحًا: نحن لا نبحث عن مغفرة من أحد، ولا ننتظر إذنًا للوجود. نحن هنا، منذ الأزل، وسنبقى، لا بسلاح وحده، بل بإرادة، وبذاكرة لا تُمحى، وبدروس من الماضي لا تُتجاهل. لأن من ينسى حسن خيري، يستحق أن يُبصق عليه، ليس على قبره فقط، بل في كل خطوة يمشيها نحو المستقبل.
السويد
22.07.2025