ماهين شيخاني
شهدت الساحة الإقليمية مؤخرًا تصريحًا مثيرًا من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، اعتبر فيه أن “نتانياهو فاق هتلر في الإبادة الجماعية”، مضيفًا أن “دفاع إيران عن نفسها أمر طبيعي ومشروع وقانوني”. هذا التصريح، وإن بدا موقفًا أخلاقيًا وانفعاليًا، يطرح أسئلة عديدة حول طبيعة التموضع التركي في خضم التوتر المتصاعد بين إيران وإسرائيل، ويضع تركيا في ميزان جديد يختبر توازنها بين تحالفاتها القديمة وتطلعاتها الجديدة.
تركيا وإسرائيل… علاقة تتجاوز التوترات الظاهرية
لطالما ارتبطت تركيا بعلاقات وثيقة مع إسرائيل، منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى العقد الأخير، حيث تعاون البلدان أمنيًا وعسكريًا واقتصاديًا. وعلى الرغم من التوتر العلني في فترات متقطعة، لا سيما بعد حادثة “أسطول مرمرة” عام 2010، فإن العلاقات لم تنقطع، بل شهدت مؤخرًا إعادة تطبيع شاملة، وتبادلًا للسفراء، وصفقات تجارية بمليارات الدولارات.
في هذا السياق، يبدو تصريح أردوغان الأخير أقرب إلى رسالة مزدوجة:
موجهة إلى الداخل التركي والإسلامي، لاستثمار المشاعر العامة تجاه القضية الفلسطينية.
وموجهة إلى إيران، لفتح نافذة تفاهم جديد وسط العزلة الدولية المتزايدة عليها.
وفي الوقت ذاته، محاولة لإعادة التموضع في ميزان الشرق الأوسط المضطرب، لا سيما في ضوء الانتخابات الأمريكية المقبلة والتحولات في خريطة الصراع الإقليمي.
براغماتية سياسية أم انقلاب في التموضع..؟
تركيا لم تتخلَّ عن علاقاتها مع إسرائيل، ولا عن عضويتها في الناتو، ولا عن مصالحها المتقاطعة مع الغرب. لذلك فإن تصريح أردوغان الأخير لا يُقرأ على أنه تحول استراتيجي، بل يُفهم ضمن براغماتية السياسة التركية التي تجيد اللعب على الحبال المتناقضة. لكن الإشكالية تظهر حين تدخل هذه البراغماتية في مواجهة مباشرة مع الواقع الإقليمي، أو حين تنقلب فجأة إلى مواجهة غير محسوبة التبعات.
الكورد… الغائبون عن خطاب “العدالة”
وسط كل هذه التصريحات والمواقف، يبقى الشعب الكوردي، في كوردستان العراق وكوردستان سوريا، الغائب الحاضر. فتركيا التي تتحدث عن العدالة والحقوق وتدافع عن قضايا إقليمية، تواصل نهجها القمعي تجاه الكورد، سواء داخل حدودها، حيث يُزجّ بالآلاف في السجون، أو خارجها، عبر العمليات العسكرية المتكررة، لا سيما في مناطق كوردستان العراق، ومناطق الإدارة الذاتية في كوردستان سوريا.
في كوردستان العراق، تتكرر الانتهاكات التركية تحت ذريعة ملاحقة حزب العمال الكردستاني، دون أي اعتبار للسيادة العراقية أو سلامة المدنيين.
وفي كوردستان سوريا، تُستخدم فزاعة الإرهاب لتبرير القصف والاحتلال، رغم أن القوى الكوردية هناك لعبت دورًا أساسيًا في هزيمة داعش، وطرحت مشاريع حكم ذاتي ديمقراطية ومدنية.
هل تخدم تصريحات أردوغان الشعب الكوردي..؟
الإجابة ببساطة: لا. بل إن الكورد هم أول من يدفع ثمن هذه التحولات المتناقضة. فكلما تصاعد التوتر الإقليمي، زادت احتمالات استخدام الورقة الكوردية كورقة تفاوض، لا كمكون أصيل له حقوقه وكرامته.
بل الأخطر أن تصريحات كهذه قد تُستخدم داخليًا لتبرير ممارسات أكثر شدة بحق الكورد، باسم “الوحدة الوطنية” أو “الخطر الخارجي”، كما حصل مرارًا في التاريخ التركي الحديث.
ماذا على الكورد أن يفعلوا..؟
يتوجب على القوى السياسية الكوردية في كوردستان العراق وكوردستان سوريا أن تقرأ هذه التحولات بعين استراتيجية، وتدرك أن الاستقواء بأي طرف إقليمي لا يُغني عن بناء جبهة داخلية كوردية موحدة، ترتكز على:
الخطاب الديمقراطي المدني.
الشراكة الوطنية الحقيقية في بلدانهم.
وحدة الصف الكوردي بعيدًا عن التجاذبات الدولية.
وفي هذا السياق، لا يمكن تجاهل الدور الكبير الذي لعبه الرئيس مسعود البارزاني في الدفاع عن الحقوق الكوردية، وحرصه على تجنيب كوردستان العراق صراعات عبثية. لقد قدّم نموذجًا في التوازن بين الواقعية السياسية والتمسك بالثوابت القومية، وهو دور يجب البناء عليه وتوسيعه ليشمل كل الجغرافيا الكوردية.
الخاتمة:
تركيا اليوم تقف عند مفترق حساس؛ تصريحاتها قد تفتح لها أبوابًا في بعض العواصم، لكنها قد تُغلق أمامها أخرى. أما الكورد، فهم بحاجة إلى قراءة عقلانية لما يحدث، وعدم الانجرار خلف التصريحات العاطفية. فمصير الشعوب لا يُرسم بالتصريحات، بل بالإرادة السياسية، والوحدة، والعمل الدبلوماسي طويل النفس.