حزب العمال الكردستاني : بين الكفاح المسلح والديمقراطية المجتمعية.

اكرم حسين 
في خطوة غير مسبوقة تحمل أبعاداً سياسية واجتماعية وفكرية عميقة، أعلن المؤتمر الاستثنائي الثاني عشر لحزب العمال الكردستانيPKK  المنعقد في ٥-٧ من الشهر الجاري ، قراره التاريخي بحل الحزب وإنهاء الكفاح المسلح، والانتقال إلى طور جديد من النضال الديمقراطي المدني ، وبذلك أنهى الحزب مرحلة دامية امتدت لأكثر من أربعة عقود، وارسى بذالك ، بداية لمراجعة فلسفية وسياسية شاملة داخل واحدة من أكثر الحركات الكردية تأثيراً واشكالاً في التاريخ المعاصر.
فحين تأسس حزب العمال الكردستاني عام 1978 بقيادة السيد عبد الله أوجلان، لم يكن مجرد تنظيم سياسي كباقي التنظيمات ، بل حاملاً لمشروع تحرري ، اتكئ على الأيديولوجيا الماركسية-اللينينية، وجمع بين النضال الطبقي والهوية القومية الكردية ، وانطلقت مسيرته النضالية في ظل إنكار تام للوجود الكردي في تركيا، وانسداد أفاق العمل السياسي السلمي، فكان العمل المسلح آنذاك خياراً أيديولوجياً وتكتيكياً في آنٍ واحد.
غير أن سنوات الكفاح الطويلة أظهرت محدودية العنف كأداة وحيدة للتغيير، خاصة في مواجهة نظام مركزي قومي وعضو في حلف الناتو كالنظام التركي ، حيث استنزف الطاقات البشرية والجغرافيا الكردية على حد سواء. في المقابل، قاد اعتقال أوجلان عام 1999 إلى تحوّل كبير في بنية الحزب الفكرية، حيث بدأ الزعيم المعتقل مراجعة نقدية شاملة، أعادت تعريف مفاهيم الدولة، السلطة، التحرر، المرأة ،  القومية ، الديمقراطية….الخ
وقد كان التحول الأيديولوجي الأبرز هو الانتقال من مفهوم “الدولة الكردية” إلى مشروع “الأمة الديمقراطية”، بوصفها فضاءً للتعايش المجتمعي اللامركزي، يتجاوز الدولة القومية وحدودها ، وقد استند أوجلان في هذا التحول إلى قراءات معمّقة في فلسفة الحركات التحررية، خاصة أفكار المفكر الأناركي الأمريكي موراي بوكتشين، الذي أثّرت مفاهيمه حول “البلدية الديمقراطية” و”الإيكولوجيا الاجتماعية” في البنية النظرية الجديدة للحزب.
وبذلك ، لم يعد الحزب في نسخته الجديدة يسعى للسيطرة على الدولة، بل لتفكيك المركزية عبر بناء شبكات من المجالس الشعبية والإدارات الذاتية، التي تقوم على مبدأ التشاركية الجندرية، والإدارة المجتمعية، والتعدد الثقافي ،  وقد تجسّدت هذه الأفكار لاحقاً في تجربة “الإدارة الذاتية” لشمال وشرق سوريا، حيث أصبحت فضاءاً عملياً لتطبيق نظرية “الأمة الديمقراطية” على الأرض.
يُمثّل قرار المؤتمر الثاني عشر لحزب العمال الكردستاني ، استكمالاً طبيعياً لهذا التحول الفكري، ويعكس إدراكاً عميقاً بتغير الظروف الإقليمية والدولية، وتحول أولويات المجتمع الكردي. فالمجتمعات الكردية باتت أكثر تطلعاً إلى الاستقرار والتنمية، وأقل قبولاً بالكلفة البشرية للصراع المسلح. كما أن الديناميات الجيوسياسية في تركيا وسوريا والعراق باتت تمنح فرصاً للعمل السياسي والمدني أكثر من ذي قبل، بشرط التحرر من عبء السلاح.
و يأتي هذا القرار في وقت تزداد فيه الحاجة إلى خطاب سياسي عقلاني يُطمئن الداخل التركي والمجتمع الدولي، ويضع نهاية لحالة الشك والحصار التي كانت تلاحق الحركة الكردية بمجملها، نتيجة التصنيف “الإرهابي” الذي طال الحزب ، ونزع الصفة العسكرية عن الحركة، واستعادة لهويتها كمشروع اجتماعي-سياسي فكري، يسعى لتحقيق العدالة والكرامة وحقوق الشعوب من داخل المنظومات الديمقراطية.
لا شك أن لهذا القرار سيكون صدى يتجاوز حدود تركيا، فحزب العمال الكردستاني ليس مجرد تنظيم محلي، بل أصبح لعقود أحد الأعمدة الفكرية والتنظيمية للحركة الكردية في عموم كردستان. إنَّ تخلّيه عن السلاح سيكون له أثر مباشر على تخفيف التوترات في سوريا والعراق، وفتح المجال أمام القوى الكردية للدخول في شراكات وطنية حقيقية، بعيداً عن ذرائع “التهديد المسلح” و “الانفصال ”  كما يُنتظر أن يُسهم في تسريع الحلول السياسية، وتسهيل جهود توحيد الصف الكردي على مستوى الاجزاء الاربعة .
ان ما جرى في المؤتمر الثاني عشر ليس سوى  إعلان نهاية البندقية، لكنه في الوقت ذاته إعلان ولادة خطاب كردي ديمقراطي أكثر نضجاً، يستمد شرعيته من الناس، لا من السلاح.
صحيح  أن هذا التحول قد تأخر، لكنه جاء اليوم ، ليضع القضية الكردية على سكة جديدة، أكثر قابلية للقبول، وأكثر قدرة وفاعلية على تحقيق ما عجزت عنه فوهات البنادق الساخنة ….!

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…