حوران حم
في سوريا، لا تبدأ الحرب عندما يرفع أحدهم صوته، ولا تنتهي عندما يعلن آخر رغبته في السلام. هذا ما يتجاهله كثيرون حين يستمعون إلى ضجيج الرئيس الموقت أحمد الشرع وطبول “فزعته العشائرية” التي تُقرع كلما أراد الرجل رفع منسوب التوتر على خطوط التماس مع المناطق الكردية. ورغم المشهد الذي يظهر فيه الشرع كصاحب قرار يستطيع دفع مئات المسلحين شمالًا أو شرقًا، فإن الحقيقة أعمق وأكثر تعقيدًا: لا الشرع ولا حاشيته ولا الذين يصفقون له قادرون على بدء حرب واحدة من دون موافقة تُصنع في غرف لا يدخلها سوري واحد.
من يستمع للغة التهديد التي يطلقها إعلام الشرع قد يعتقد لوهلة أن الحرب في شمال وشرق سوريا مجرد قرار يتخذه الرجل عند الغضب. لكن التمعّن في مسار السنوات الماضية يكشف أن الشرع ليس سوى مدير فرعي في شركة سياسية كبرى تتحكم بها عواصم بعيدة، وتحدّد له متى يرفع السلاح، وأين يضعه، وكيف يستخدمه. لقد تحوّل الشرع خلال فترة حكمه المؤقت إلى أداة سياسية في يد تركيا، لكنها أداة محدودة الصلاحيات؛ تتحرك فقط ضمن المساحة التي تسمح بها أنقرة، وتتجمّد حين تشاء أنقرة، وتُستخدم حين ترى أنقرة أن الوقت مناسب لرفع الكلفة على خصومها.
ومع أن تركيا تبدو — للوهلة الأولى — صاحبة اليد العليا في تحريك الرئيس الموقت أحمد الشرع وقواته، فإنها ليست صاحبة القرار النهائي. فالتوغل شرق الفرات ليس شأنًا تركيًا داخليًا، بل مسارًا دوليًا يحتاج إلى تفاهمات معقدة بين واشنطن وموسكو وطهران. لذلك تبدو التهديدات التركية أشبه بفقاعات اختبار أكثر منها خطة حرب؛ كل خطوة تركية يجب أن تمر عبر ميزان الحسابات الأميركية والروسية، وعبر شبكة مصالح لا تتحرك إلا إذا شعرت واشنطن أن الوقت مناسب. وهذا ما لم يحدث حتى الآن.
في جوهر المشهد، تبدو الولايات المتحدة اللاعب الأكثر تأثيرًا، وربما الوحيد الذي يملك القدرة على إطلاق شرارة الحرب أو إطفائها. فشرق الفرات — بكل تركيبته العسكرية والسياسية — يمثل لواشنطن آخر منطقة مستقرة في ملف سوري فوضوي، وآخر شريك حقيقي في محاربة داعش. لذلك ترفض الولايات المتحدة — حتى الآن — منح تركيا ضوءًا أخضر لحرب واسعة، ليس دفاعًا عن الكرد، بل دفاعًا عن استراتيجيتها التي ترى في قوات سوريا الديمقراطية عامل توازن، وفي الإدارة الذاتية بنية تمنع عودة الفوضى. وهكذا تتوقف كل محاولات الشرع وتهديدات أنقرة عند الباب الأميركي، وتبقى مجرد أدوات ضغط سياسية وليست مقدمات حرب.
لكن البيئة الإقليمية المحيطة لا تقل تعقيدًا عن القرار الأميركي. فإيران، التي تراقب التجربة الكردية بقلق تاريخي، تدرك أن نموذج حكم ذاتي ناجح في سوريا سيصل صداه إلى مهاباد وكرمانشاه وسنندج. ولذلك تعمل طهران بكل أدواتها على خلق مساحات توتر في المناطق الكردية السورية. تدفع بميليشياتها أحيانًا، وبالنظام أحيانًا، وتستخدم الضغط الاقتصادي والمعابر، وتعمل كمن يحاول “إغراق” أي تجربة كردية في الفوضى.
أما تركيا، فرغم امتلاكها القوة العسكرية الأكبر على الحدود، فإن قلقها ليس سياسيًا فقط، بل وجوديًا. فالدولة التي تخشى الكلمة الكردية أكثر من السلاح الكردي ترى في أي اعتراف بالكرد السوريين خطوة أولى نحو فتح النقاش حول الكرد داخل تركيا. وهذا الخوف — المتجذر منذ تأسيس الجمهورية — يجعل أنقرة تبحث عن أي فرصة لإيقاف النموذج السياسي الكردي في سوريا مهما كان الثمن.
النظام السوري بدوره لا ينظر إلى الإدارة الذاتية كخصم سياسي، بل كتهديد وجودي. ففي نظر دمشق، أي صيغة لإدارة كردية تعني كسرًا لاحتكار السلطة المركزية، وفتح الباب أمام نماذج مشابهة في الساحل والجنوب. ولذلك يمارس النظام “حرب الإنهاك” ضد الكرد: حصار هنا، ضغط اقتصادي هناك، تفاهمات مع تركيا حينًا، وتفاهمات مع إيران حينًا آخر، فقط ليبقى الوجود الكردي محاصرًا.
حتى بعض الدول العربية التي تراقب الملف السوري لا تبدو مستقرة في موقفها. بعضها يخشى أن يتحول الكرد إلى لاعب سياسي قوي في مستقبل سوريا، وبعضها يستخدم الورقة الكردية في إطار توازنات مع تركيا وإيران. هذه العواصم لا تعادي الكرد مباشرة، لكنها تتوجس من لحظة يصبح فيها للكرد وزن يغير شكل الشرق الأوسط.
وسط هذه الشبكة المتشابكة من المصالح والصراعات، يقف الكرد اليوم في موقع بالغ الحساسية. فهم ليسوا في مواجهة الشرع فقط، ولا في مواجهة تركيا وحدها، بل في مواجهة إرادة إقليمية كاملة ترى في صعودهم السياسي تهديدًا مباشرًا لمشاريعها. ومع ذلك، ورغم حجم الضغوط، يواصل الكرد التمسك بتجربتهم، لأنها بالنسبة لهم ليست مشروعًا سياسيًا فحسب، بل ترجمة لقرن كامل من الصراع على الهوية والحقوق.
الحرب على كردستان سوريا — إن اندلعت — لن تكون نتيجة قرار يصدر من الرئيس الموقت أحمد الشرع، ولن تكون ثأرًا عشائريًا أو نزوة عسكرية. إنها — إن حدثت — ستكون نتيجة تلاقي إرادات دولية وإقليمية تريد إعادة رسم خريطة النفوذ في سوريا، وإعادة صياغة دور الكرد في مستقبل المنطقة. وحتى اللحظة، هذا التلاقي لم يحدث؛ ولذلك تبقى الحرب مؤجلة، ويبقى صراخ الشرع أعلى من قدرته، ويبقى الكرد في موقع الدفاع عن وجودهم في لحظة تاريخية حرجة.
لا شيء يحسم اليوم سوى الإرادة الدولية. الشرع يتحدث، وتركيا تضغط، وإيران تناور، والنظام يلتف، والعواصم العربية تراقب، لكن القرار الحقيقي لا يزال محتجزًا في واشنطن — حيث يُرسم مستقبل الحرب قبل أن تُرسم خرائطها. وحتى ذلك الحين، سيظل الكرد جزءًا من معادلة لم يكتمل نضجها، لكنهم أثبتوا أنهم لن يكونوا خارجها مهما تغيّرت الظروف.