زاكروس عثمان
في النقاشات السياسية المتصلة بسوريا، يبرز خطاب إعلامي موجَّه يعتمد على مغالطات لغوية – سياسية تُستخدم لترسيخ رواية السلفية–التكفيرية حول “الدولة الواحدة” و“هيمنة الأغلبية”.
ومن أخطر هذه المغالطات ما جاء به الإعلامي السوري فيصل القاسم في مقاله المنشور في صحيفة القدس العربي يوم الجمعة 14 نوفمبر 2025 بعنوان: «متى حكمت الأقليات في الديمقراطيات؟».
يبدأ القاسم مقاله بهجوم حاد على الديمقراطيات الغربية، مدّعيًا أنها مخصّصة للأغلبية الدينية والقومية في كل بلد، وأن الأقليات لا مكان لها فيها. ويتساءل:
«هل الغرب، الذي يطالبنا بتطبيق الديمقراطية، يطبّقها فعلاً؟ أم إنه يحتكم إلى قاعدة حكم الأكثرية العددية والثقافية والدينية؟»
ويضيف: لو حكمت بريطانيا أقلية طائفية، فهل سيقبل البريطانيون بذلك؟ ليجيب: “مستحيل”، لأن بريطانيا – بحسب رأيه – دولة يحكمها “البيض البروتستانت الأنغليكان”، تمامًا كما أن أمريكا – وفق منطقه – لا يحكمها إلا “البيض الأنغلوساكسون البروتستانت”، باستثناء باراك أوباما “الذي اضطر لأن يكون أمريكيًا أبيض أكثر من البيض أنفسهم كي يُقبل به”.
ويمضي القاسم إلى ألمانيا متسائلًا: لماذا لا يحكمها الأتراك المسلمون الذين يزيد عددهم على خمسة ملايين؟ ليخلص إلى أن “الألمان الأصليين” هم أصحاب القرار.
هذه المغالطات المقصودة تهدف إلى خلط مفهومي الأقلية البرلمانية والأقلية القومية/الدينية. وهذا الخلط ليس سهوًا، بل أداة سياسية تُستخدم اليوم لشرعنة سلطة أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع) الساعية إلى ترسيخ نموذج دولة قائمة على قومية عروبية – سلفية متطرفة، وصولًا إلى نفي وجود شعوب كاملة داخل الدولة لمجرد اختلافها قوميًا أو دينيًا عن “الأغلبية”.
الفرق الجوهري بين الأقلية البرلمانية والأقلية القومية
ـ الأقلية والأغلبية داخل البرلمان: مفهوم تقني – سياسي يرتبط بعدد المقاعد، ونتائج الانتخابات، والتحالفات الحزبية.
وهو مفهوم متغيّر قد ينقلب في ليلة واحدة، فالحزب الذي يشكل أغلبية اليوم قد يصبح أقلية غدًا، كما يحدث في كل انتخابات حرة.
ـ الأقلية والأغلبية كتصنيف قومي – سوسيولوجي، هنا نتحدث عن شعب له ثقافة، لغة، تاريخ، إقليم، ووعي جمعي، وهذا لا علاقة له بنتائج الانتخابات، ولا يخضع لتقلّبات الأحزاب، إنه مفهوم ثابت نسبيًا يتكوّن عبر قرون، وليس عبر صندوق اقتراع.
لماذا يتعمّد القاسم هذا الخلط؟
لأن الهدف ليس أكاديميًا، بل سياسيًا: وهو شرعنة سلطة “الأغلبية السلفية – العروبية” بقيادة الجولاني، والدفع بفكرة أنه يمثل “الأغلبية الطبيعية” التي “يحق لها الحكم المطلق”. لكن “الأغلبية” هنا ليست نتاج صناديق اقتراع، بل فرض بالقوة والسلاح وإقصاء سياسي شامل وانتخابات هزلية، ولهذا يزيّن القاسم هذه الهيمنة بادعاء “حق الأغلبية المقدس”، ليبرّر انتزاع حقوق القوميات غير العربية عبر القول:أنتم أقلية… والأغلبية تفرض إرادتها.” وهكذا يتحوّل التمييز القومي إلى “قرار ديمقراطي”، بينما هو في الحقيقة قمع قومي منظّم.
وحين يختزل الجولاني ومن خلفه تركيا قضية كوردستان (Rojava) في حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)الذي يدير المنطقة حاليا، يصبح النقاش – في نظرهم – مجرد مسألة “مقاعد” و“كتل برلمانية”، رغم أنه لا توجد انتخابات حقيقية ولا برلمان حقيقي في سوريا أصلًا.
وبالتالي، لا معنى للحديث عن “أغلبية” و“أقلية” داخل مؤسسة غير ديمقراطية تمامًا.
المقارنة بين أكثرية حزبية وأقلية قومية مقارنة خاطئة؟
لأن الهوية القومية ليست حزبًا ولا مقعدًا، الكوردي لا يتوقف عن كونه كورديًا إذا خسر حزب ما الانتخابات، والعربي لا يفقد هويته القومية إذا أصبحت الأحزاب الكوردية أقوى منه يومًا ما.
في كل الدساتير المتقدمة، حقوق الأقليات القومية (اللغة، الثقافة، الإدارة الذاتية) حقوق غير قابلة للتصويت، ولا يملك أي “أغلبية عددية” الحق في التصويت ضد
لغة شعب ـ حقه في التعليم بلغته ـ حقه في الفيدرالية ـ رموزه الثقافية، وإلا تحوّل “حكم الأغلبية” إلى استبداد الأغلبية.
كيف يستخدم الجولاني هذا الخطاب ضد الكورد؟
عبر تصوير الشعب الكوردي على أنه “طائفة صغيرة”، لا شعب يمتد عبر أربعة أجزاء، إنكار وجود قضية سياسية – قومية، اختزال كل المطالب القومية إلى “حقائب وزارية”. اعتبار أي مشروع سياسي كوردي “تمردًا للأقلية على الأغلبية”.
إعادة إنتاج خطاب قومي عربي بنسخة سلفية أشدّ تطرفًا.
بينما الحل الحقيقي لقضايا الأقليات في بلد ممزق مثل سوريا لا يكون بإحصاء المقاعد، بل عبر عقد دستوري يعترف بـ:
وجود الشعوب ومكانتهاـ حماية لغاتها ـ إدارة ذاتية عادلة ـ توزيع عادل للثروات
ـ سيادة القانون، لا قانون البعث أمس، ولا تشريع “جبهة النصرة” اليوم.
إن فضح مغالطة الخلط بين الأقلية البرلمانية والأقلية القومية خطوة ضرورية لاستعادة النقاش السوري من هيمنة الخطاب الموجَّه، فالصراع في جوهره ليس صراع أحزاب، بل صراع حقوق شعوب.
والمغالطة التي يروّج لها القاسم ليست جهلًا، بل استراتيجية سياسية تهدف إلى طمس التعدد القومي وتبرير الاحتكار السياسي وإسكات مطالب الشعوب الموجودة على أرضها التاريخية.
وكان الأجدر بالقاسم، بدل السخرية من الديمقراطيات الغربية، أن يشير إلى المعايير الصحيحة لحل قضايا الأقليات، وأن يعترف بأن سوريا ليست مشكلة “مقاعد”، بل مشكلة حقوق مغتصَبة وشعوب تُنكر هويتها.