المحامي عبدالرحمن محمد
الشعب الكوردي، شأنه شأن شعوب العالم كافة، ليس استثناء من قاعدة التاريخ ولا من مبادئ القانون الدولي، وفي مقدمتها حق الشعوب في تقرير مصيرها. الدولة الكوردية ليست منة من أحد، بل هي حق سياسي وقانوني وحقوقي أصيل. ومن هنا، لا مكان للشعارات الكاذبة ولا للصفقات الاستسلامية التي تبرم على حساب حقوق الشعب الكوردي وتضحياته.
أولا: التدخل في غرب كوردستان ومصادرة القرار الكوردي
منذ بداية الأزمة السورية، تدخلت ما أسميه بـ«جماعة عبر الحدود» في شؤون غرب كوردستان، بناء على طلب النظام السوري الساقط وبالتنسيق معه، وذلك لتحقيق أهداف سياسية، أبرزها:
-
مصادرة القرار السياسي والحقوقي للشعب الكوردي في غرب كوردستان.
-
فرض واقع معين بالقوة والعنف على الأرض، بعيدا عن إرادة الشعب الكوردي ومصالحه العليا.
لاحقا، ومع تعمق الصراع في سوريا وتداخل مناطق النفوذ الإقليمية والدولية، أصبح جزء من غرب كوردستان ضمن نطاق النفوذ الأميركي. ونتيجة لذلك، قامت الولايات المتحدة بتأسيس «قوات سوريا الديمقراطية – قسد» لمحاربة تنظيم داعش، كقوة «جنود تحت الطلب» مقابل المال والسلاح، دون أن يرفق ذلك بأي اتفاق سياسي أو حقوقي حقيقي يضمن مصالح الشعب الكوردي وحقوقه المشروعة.
لقد استغلت «قسد» عسكريا لخدمة أجندات ومصالح الولايات المتحدة في سوريا، في ظل غياب تام لإطار سياسي واضح، أو تعهدات قانونية تجاه الكورد وحقوقهم القومية.
ثانيا: تحولات ما بعد سقوط النظام ومحور «تركيا خالية من الإرهاب»
مع تغير الظروف الإقليمية والدولية بعد سقوط النظام (أو تهاويه) وتبدل المحاور والعلاقات، طرحت تركيا مبادرة تحت شعار:
«تركيا خالية من الإرهاب»
تجاوب معها السيد عبد الله أوجلان إيجابيا تحت شعار:
«الاندماج الديمقراطي»
وبناء على هذا المسار، طلب أوجلان حل «جماعة عبر الحدود» أي حزب العمال الكردستاني (PKK) وإلقاء السلاح دون مقابل سياسي واضح، وبالتنسيق مع الاستخبارات التركية (الميت)، ودون إبرام أي اتفاق سياسي أو حقوقي معلن مع الدولة التركية، تحت عنوان:
«مشروع السلام والاندماج»
إلا أن الواقع يكشف أن ما جرى لم يكن «مشروع سلام» بالمعنى السياسي والقانوني، بل مشروع استسلام بدون شروط، لا يضمن الحد الأدنى من حقوق الشعب الكوردي.
ثالثا: تجاوز الخطوط الحمراء… والضغط على جنوب وغرب كوردستان
لم يقف أوجلان عند حدود شعار «تركيا خالية من الإرهاب»، بل تجاوزه إلى ما هو أخطر، حين طلبت منه المخابرات التركية حل أذرع وأدوات وأتباع «جماعة عبر الحدود» (PKK) في جنوب وغرب كوردستان أيضا.
وعلى أثر ذلك:
-
تدخل أوجلان بشكل مباشر،
-
وفرض على «مسد» (مجلس سوريا الديمقراطية) و«قسد» خيار الاندماج في الدولة السورية، أي عمليا: الاستسلام،
-
وتسليم غرب كوردستان للدولة السورية، كما كانت هذه المنطقة قبل استلامها من النظام الساقط.
حتى اللحظة، تشير المعطيات والمؤشرات والمواقف والأحداث إلى قبول قسد ومسد بطلب أوجلان، دون اعتراض جوهري أو نقاش علني، وهو ما يثير الاستغراب والقلق معا.
رابعا: موقف استسلامي يسيء لتضحيات الشهداء
إن الموقف الاستسلامي والانهزامي لأتباع «جماعة عبر الحدود» وقبولهم بصفقة التواطؤ والتنسيق بين إمرالي (مكان اعتقال أوجلان) والمخابرات التركية، هو أمر يدعو إلى الاستهجان.
هنا، يتوجب على:
-
أهالي الشهداء،
-
وكل من قدم تضحيات على درب الحرية،
أن يرفضوا هذا المسار، وأن يستخدموا حق الفيتو الأخلاقي والسياسي في وجه أي صفقة تنتقص من حقوق الشعب الكوردي، احتراما لدماء الشهداء، وصونا لحقوق الأجيال القادمة، وحماية لتراب كوردستان.
خامسا: تقاطع المصالح الإقليمية والدولية على حساب الكورد
لا يخفى على أحد أن للولايات المتحدة مصالح وأولويات استراتيجية في المنطقة، في مقدمتها الأمن الإسرائيلي والأمن الأميركي. ومع انضمام دمشق للتحالف الدولي ضد تنظيم داعش، نشأ واقع جديد من تقاطع المصالح – ولو بصورة غير مباشرة – بين:
-
الولايات المتحدة،
-
سوريا،
-
تركيا،
-
إسرائيل،
رغم ما يبدو من تعارضات بين هذه الأطراف.
في هذا السياق:
-
لدى سوريا استعداد للتطبيع مع إسرائيل وفق شروط إسرائيلية.
-
ولدى أوجلان استعداد تام للتنازل لتركيا والاستسلام لشروط مخابراتها.
وهكذا تتقاطع خطوط التفاهم بين أنقرة ودمشق وتل أبيب وواشنطن، في كثير من الأحيان، على حساب الحقوق الكوردية، وليس لصالحها.
سادسا: تصفية القضية الكوردية تحت شعار «دولة المواطنة»
الخلاصة أن هناك تنسيقا وتفاهما شبه مطلق بين أوجلان والمخابرات التركية، هدفه:
-
الاستمرار في مصادرة القرار السياسي والحقوقي للشعب الكوردي،
-
نزع جوهر حق تقرير المصير،
-
واختزال القضية الكوردية في شمال وغرب كوردستان ضمن إطار «الاندماج في دولة المواطنة» السورية والتركية،
-
بما يفرغ القضية الكوردية من مضمونها السياسي والحقوقي والوطني الكوردستاني.
هذا ليس سلاما، ولا يمكن اعتباره اتفاقا سياسيا أو حقوقيا متكافئا، بل هو عملية استسلام وتصفية ممنهجة لحق الشعب الكوردي في تقرير مصيره، عبر تقاطع مصالح دولية وإقليمية وأدوات محلية.
سابعا: أخطر من اتفاقيات لوزان وسايكس – بيكو وزهاو
ما يجري اليوم من صفقة استسلامية وتواطؤ بين أوجلان والمخابرات التركية، يشكل – في تقديري – خطرا على القضية الكوردية يفوق خطورة:
-
اتفاقية لوزان لعام 1923،
-
اتفاقية سايكس – بيكو لعام 1916،
-
اتفاقية زهاو بين الإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية الصفوية.
فالاتفاقيات المذكورة كرست تجزئة كوردستان وحرمت الشعب الكوردي من دولته، أما الصفقة الحالية فتهدف إلى:
-
تكريس الواقع المفروض على الشعب الكوردي،
-
ترسيخ وشرعنة الاحتلال،
-
ومصادرة حقه في تقرير المصير رغما عن إرادته،
-
وبالإكراه والإرهاب السياسي والعسكري،
-
وبدون أي استفتاء أو استشارة حقيقية للشعب الكوردي أو تمكينه من التعبير الحر عن رأيه.
ثامنا: البعد القانوني الدولي – جريمة بحق حق تقرير المصير
وفقا لمبادئ القانون الدولي، فإن أي صفقة أو اتفاق:
-
يلغي أو يصادر حق شعبٍ ما في تقرير مصيره،
-
ويفرض عليه بالإكراه أو تحت التهديد أو عبر تغييب إرادته،
يعد انتهاكا خطيرا لحقوق الإنسان الفردية والجماعية، وخرقا لمبدأ حق تقرير المصير الذي أقرته:
-
ميثاق الأمم المتحدة،
-
العهود والمواثيق الدولية،
-
والقرارات الأممية ذات الصلة.
إن حق تقرير المصير هو:
-
مبدأ سياسي وقانوني وحقوقي ودولي مطلق،
-
غير مشمول بالتقادم،
-
وغير قابل للتصرف أو التفاوض أو التنازل،
-
لأنه حق تاريخي ثابت لكل شعوب العالم، بما فيها الشعب الكوردي.
وعليه، فإن أي اتفاق أو صفقة تبرم دون استفتاء الشعب الكوردي ودون احترام إرادته الحرة، هي باطلة من الناحية القانونية والأخلاقية، وتشكل جريمة بحق هذا الشعب وبحق القانون الدولي نفسه.
خاتمة
إن الشعب الكوردي ليس استثناء من حتميات التاريخ ولا من مقتضيات العدالة.
حقه في الدولة وحقه في تقرير المصير ليس شعارا عاطفيا بل هو:
-
حق قانوني،
-
حق سياسي،
-
وحق إنساني أصيل.
كل مشروع أو صفقة أو «تفاهم» يتجاوز هذا الحق، أو يحاول اختزاله في شعارات «الاندماج» دون ضمانات قومية وحقوقية واضحة، هو مشروع استسلام لا «سلام»، وتكريس للظلم التاريخي الذي تعرض له الشعب الكوردي منذ أكثر من قرن.
واجب الأجيال الحية، وأهالي الشهداء، والنخب السياسية والحقوقية الكوردية، أن يرفضوا كل مسار يصادر هذا الحق، وأن يتمسكوا بحق تقرير المصير، باعتباره خطا أحمر لا يمس.