فرسانُ الكلمة… وحُرّاسُ الوعي في معركة الوجود الكُردي

صلاح عمر

في مسيرةٍ طويلة امتدّت لعقود، خاض فيها شعبُنا الكُردي معارك البقاء بكل أشكالها، لم تكن البنادق وحدها في الميدان، ولا السجون والمنافي وحدها مسارح الألم. كان هناك دائماً جبهةٌ أخرى لا تقلُّ خطراً ولا تضحية: جبهة الوعي. فمن دون الكلمة، ما كان للهوية أن تصمد، ولا للرواية أن تبقى، ولا للذاكرة أن تنجو من محاولات الطمس والاجتثاث التي لاحقت الكُرد جيلاً بعد جيل.

لقد وقف المناضلون في أقسى السجون، وتفرّقوا في المنافي حاملين قلوبهم على أكفّهم، ورأوا قراهم تُسلب كي ينطفئ أثرهم من الأرض. ومع ذلك، بقيت جذورهم أعمق من أن تُقتلع، وبقيت الكلمة هي الحارس الأول لوجودهم. كانت القلمُ يُشهر كالرمح، والموقف يُرفع كالعلم، والوعي يُبنى لبنةً لبنةً فوق ركام الظلم، حتى لا يسقط اسم شعبنا من سماء التاريخ.

وما نحن فيه اليوم ليس حالةً طارئة، بل استمرار لمعركةٍ عمرها قرنٌ كامل. فحين ظنّ البعض أن سقوط النظام البعثي وأسياده سيُمهّد لفجرٍ جديد، اتضح أن الإقصاء لم يكن في الأشخاص بل في ذهنيةٍ كاملةٍ تربّت على نفي الآخر، وعلى اعتبار المواطنة امتيازاً يمنحونه أو يمنعونه. ذهنيةٌ وجدت في انهيار النظام فرصةً لتجديد أدواتها، وزرع الفتنة، وتحويل الكُرد إلى خصمٍ حتى في لحظة التحرر الوطني.

وهنا بالذات، تبرز المعركة الأخطر: معركة الوعي.
المعركة التي لا تُخاض في الخنادق، بل في ساحات الفكر والإعلام، حيث تتحوّل الكلمة إلى درعٍ يحمي الحقيقة، وإلى جسرٍ يصل الرواية بحقوق أصحابها. فمن دون تثبيت الحق على الورق، لن يُثبت على الأرض. ومن دون حماية الرواية، لن يصمد التاريخ في وجه التحريف.

في هذه الجبهة، وقف “فرسان الكلمة” بشجاعةٍ لا تقل عن شجاعة من حملوا السلاح دفاعاً عن بيوتهم. وقفوا ليحموا الحقيقة حين تتكالب عليها الأصوات العنصرية، وليدافعوا عن حقِّ شعبٍ يبحث عن مكانٍ صغير يمارس فيه إنسانيته. هؤلاء الكتّاب ليسوا مجرد صوتٍ في صخب الإعلام؛ إنهم حُماة الهوية، سدنة الذاكرة، حراس الوجود المعنوي لشعبٍ يريد أن يعيش كبقية الشعوب.

كل التقدير لكل قلمٍ ثبت في وجه حملات التشويه، لكل صوت اختار الحجة على الصراخ، ولكل من كتب دفاعاً عن شعبه من موقع الشرف والمسؤولية:
سربست نبي، شورش درويش، هوشنك أوسى، رستم محمود، شيروان ملا إبراهيم،
ومع حفظ الألقاب لكل من لم تسعف الذاكرة بذكره… فالقائمة أطول بكثير من أن تُحصى.

وفي خضم هذه المعركة، يتعرض أخونا هوشنك أوسي اليوم لحملةٍ منظمة من إعلام السلطة ومن الشعبويين الجدد ممن لا يحسنون سوى التهجم والتشويه، وخاصة بعد مشاركته في برنامج «على الطاولة» مع مقدمه المعروف بسلوكه الاستفزازي تجاه كل صوت يخالف هوى السلطة أو يخرج عن سرديتها. كان واضحاً أن الهدف ليس الحوار، بل محاصرة الضيف بالمقاطعات والسخرية ليبدو ضعيفًا أمام المشاهد، وهي أساليب رخيصة لا تمتّ للمهنية بصلة.

المؤسف أن بعض أبناء شعبنا، بدافع الطيبة أو بحسن نية، يطالبون بالهدوء والتسامح مع هذه المنابر، وكأنّ احترام الذات يمكن التنازل عنه من أجل “كسب الأصدقاء”. لكن الحقيقة أنّ هذه المنابر ليست في وارد المصالحة أصلاً، ولا في وارد بناء الجسور، بل تعمل وفق أجنداتٍ محددة لا تتغير بابتسامات المثاليين. فالتسامح مع من يطعن وجودك هو خضوعٌ لا حكمة، وصمتٌ لا رقيّ، وتهاونٌ لا أخلاق.

إن معركتنا اليوم ليست معركة بنادق فقط، بل معركة روايةٍ ووعيٍ وحقّ.
وما لم نرفع الكلمة بصلابة، ونُحصّن روايتنا من التشويه، فلن نستطيع تثبيت وجودنا في وطنٍ نحلم به حراً كريماً.

فلترتفع راية الكلمة…
ولتظل الحقيقة أعلى من كل ضجيج…
ولتَبقَ إرادة شعبنا هي الحكم الفصل في هذه المعركة التي تكتب مستقبل كردستان سوريا.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…