مسرحية بين المطرقة والسندان

عبدالجابر حبيب

من يراقب سورية اليوم، يدرك أنّنا أمام مسرحية طويلة انتهت فصولها منذ زمن، لكن الممثلين يرفضون مغادرة الخشبة. الجمهور ملّ، الكهرباء مقطوعة عن المسرح، ومع ذلك تُصرّ الأصوات القادمة من الخارج على الاستمرار في العرض: موسكو تريد إعادة كتابة النص، واشنطن تضبط الإضاءة بما يناسبها، تركيا توزع بطاقات الدخول على اللاجئين، وإسرائيل تراقب من المقصورة العليا لتضمن أن أحداً لن يتجرأ على الاقتراب منها. أمّا السوريون؟ فهم يدفعون ثمن التذكرة كل يوم، ولو كانوا يفضلون شراء الخبز.

 

إعادة تدوير الأزمة

العالم اكتشف فجأة أنّ الملف السوري ما زال على الطاولة. لكن هذه العودة لم تأتِ بدافع إنساني، بل من باب الصفقات الدولية. العقوبات باقية، و”قانون قيصر” يُستعمل كورقة ضغط، فيما المساعدات تمرّ عبر أنفاق البيروقراطية. وكأنّ المجتمع الدولي يقول للسوريين: سنمدّ لكم يد العون، ولكن بعد أن نتأكد أنكم غرقتم تماماً.

النتيجة: أزمة اقتصادية خانقة، انهيار العملة، وتحوّل المواطن السوري إلى باحث يومي عن قنينة غاز وفتات خبز. الضغوط الدولية هنا تشبه عملية ضغط دم: الأرقام ترتفع، الرأس يكاد ينفجر، لكن الطبيب يصرّ على قياس جديد للتأكد من أن المريض ما زال حياً.

 

تصدعات غير متوقعة

ما جرى في الساحل كان إنذاراً بأن “المناطق المحسوبة على الولاء” لم تعد كتلة صمّاء. البطون الفارغة لا تعرف الطائفية، والصرخة هناك كسرت صورة التماسك الأبدي.

في السويداء، المشهد أوضح: احتجاجات مستمرة، شعارات جريئة، ورفض علني لسلطة مركزية عاجزة عن تأمين أبسط مقومات الحياة. من اعتاد أن يعتبر الجبل “خارج الحسابات” اكتشف أنه صار مكبّراً للصوت، يردد ما يجول في خواطر ملايين السوريين الصامتين في بقية الجغرافيا.

 

السير على حبل مشدود

قوات سوريا الديمقراطية، بدعم أميركي متردّد، تمسك شرق الفرات كمن يمسك كوب ماء في عاصفة. تركيا تلوّح بالاجتياح متى شاءت، والروس يقدّمون خياراً آخر: العودة إلى دمشق. لكن هذا الخيار أشبه بالدخول إلى مأدبة فارغة؛ الكراسي كثيرة والطعام شحيح.

واشنطن تريد “إبقاء الوضع تحت السيطرة”، لكنها لا تمنح ضمانات حقيقية. هذا يعني أنّ “قسد” تعيش بين المطرقة التركية والسندان الأميركي، فيما السكان المحليون يواجهون تحديات اقتصادية وأمنية متزايدة. أي خطأ في الحساب قد يدفع بالمنطقة إلى مواجهة جديدة، أو تسوية قسرية، أو حتى فراغ أمني لا يعرف أحد كيف يُملأ.

 

أوركسترا على أرض خراب

روسيا: غارقة في مستنقع أوكرانيا، لكنها لا تريد خسارة موطئ قدمها على المتوسط. قواعدها العسكرية في سورية ورقة مساومة أكثر مما هي التزام استراتيجي.

تركيا: تتعامل مع الشمال السوري كمستودع احتياطي للسياسة الداخلية؛ كلما اقتربت الانتخابات، عاد الملف السوري إلى الواجهة.

الولايات المتحدة: وجودها شرق الفرات ليس حباً في الديمقراطية، بل ورقة مساومة على طاولة الصفقات الكبرى.

إسرائيل: تستمتع بالرياضة الجوية فوق دمشق، تضرب حيث تشاء، وتغادر بلا مقاومة تُذكر. رسالتها واضحة: “لن نسمح بتهديد أمننا، والبقية تفاصيل”.

 

 المآلات المحتملة: ثلاثة سيناريوهات

1- تجميد طويل الأمد: بقاء خطوط التماس كما هي، مع استمرار الانهيار الاقتصادي والاجتماعي. النتيجة: سورية تتحول إلى دولة قائمة بالاسم فقط، يعيش شعبها على المعونات والحوالات.

2 – تغييرات تدريجية محسوبة: إدخال إصلاحات محدودة لإرضاء الخارج دون مسّ جوهر السلطة. أشبه بطلاء جدران مهدمة بألوان زاهية.

  1. انفجار داخلي جديد: إذا استمر الضغط المعيشي وتوسعت الاحتجاجات، فقد نشهد فوضى جديدة تعيد خلط الأوراق. لكن لا ضمانة أن يكون البديل أفضل، بل قد يكون أكثر تعقيداً وخطورة.

 

نكتة سوداء على أطلال بلد

سورية اليوم لا تقف على مفترق طرق، بل في متاهة. كل باب يحمل لافتة “المخرج”، لكن فتحه يعيدك إلى الغرفة نفسها. الخارجون يقرّرون، والداخلون ينتظرون. وفي النهاية، لا يملك السوري سوى سلاح صغير: ضحكة سوداء في وجه عبث سياسي يمدّ عمر الأزمة يوماً بعد يوم.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…