كنعان عكيد قصّة نضال يجب ألا تنسى*

نارين عمر

   يقال: الرجال لا يعرفون ولا يظهرون إلا في الشدائد والمواقف الصعبة، عندها يظهر معدنهم لامعاً كالذهب أو متآكلا من الصدأ.

كنعان عكيد أثبت على أنه رجل الشدائد والمواقف الصعبة، ككردي مناضل، صامد، مخلص لقضية شعبه، وفيّ لتراب وطنه من خلال مسيرته النضالية العريقة التي أثبت فيها على أنّ من يريد القيادة والريادة عليه أن يمتلك صفاتها وسماتها، ويتحمل كل عواقبها.

يقال أيضاً:

“السجن للرجال”، نعم، أثبت لسجانه أنه كردي صلب، قوي، صامد، صاحب حق، عندما تحداهم بصموده أمام جبروتهم، وتصديه لكل محاولاتهم الاستفزازية لإضعافه وإجباره على إفشاء أسرار حزبه أو الإبلاغ عن رفاقه.

كما أنه كان شخصاً مقداماً لا يحبّ أذية المظلوم من أي قومية أو دين كان؛ وفي هذا السياق يؤكّد المناضل نورالدين ظاظا* رئيس حزب الديمقراطي الكردستاني- سوريا، الذي كان معتقلاً في الزنزانة التي كان المناضل كنعان معتقلاً فيها على أن:

(( كنعان عكيد أبدى شجاعة فائقة في السجن رافضاً أوامر أحد جلاديه بضرب رجل يهودي مسن كان معتقلاً معهم، ما دفع الجلاد إلى توجيه المزيد من ضرباته إلى وجه وجسد كنعان)).

 

ولادته ونشأته:

   ولد كنعان عكيد في قرية ” مزره” التابعة لمنطقة ديريك، وتقع على ضفاف نهر دجلة في عام 1938.

التحق بالمدرسة حينذاك، وأتمّ تعليمه في المرحلتين الابتدائية والاعدادية في مدينتي ديريك والقامشلي، ولكنه اضطر فيما بعد إلى تحمل مسؤولية عائلته إثر وفاة والده عكيد آغا في عام 1952الذي كان يوفر له كل سبل الحياة الهانئة  والرغيدة، وبذلك بدأ بالاهتمام بعائلته وتسيير أمورها.

 

نضاله الحزبي والسياسي:

   كان كنعان عكيد من أوائل المنتسبين إلى حزب الديمقراطي الكردستاني- سوريا، الذي يعد أول تنظيم كردي حزبي للشعب الكردي في سوريا، إيماناً منه بقضية شعبه وأمته سعياً لاسترجاع الحقوق المسلوبة على كافة الأصعدة، ونظراُ لدوره المميّز في الحزب ووفائه وإخلاصه الكبيرين فقد تمّ انتخابه عضواً في القيادة المرحلية للحزب الديمقراطي الكردي في سوريا، وكان الشعب الكردي حينها يعيش ذروة النّضج القومي والنضال السياسي، وكانت المعنويات لديهم عالية جداً بوجوب استرجاع حقوقهم ونصرة قضاياهم. أما في عام 1970 فقد اختير عضواً للجنة المركزية للحزب في المؤتمر الحزبي الأول، ثم انتخابه عضواً للمكتب السياسي للحزب.

 

كنعان عكيد المعتقل السّياسي:

   نظراً لنضاله الدؤوب لنصرة قضية شعبه ووفائه لأمته والدفاع عنهم بالمال والروح والدم فقد تعرّض للاعتقال عدة مرات وذلك سعياً منهم لإخماد روح النضال والكفاح لديهم ولدى الشعب الكردي وخاصة الشباب منهم:

 المرة الأولى: في عام 1960 عندما تمّ اعتقاله مع عدد من أعضاء وقيادات الحزب الديمقراطي الكردستاني من قبل الأجهزة الأمنية والمخابراتية لنظام الوحدة آنذاك.

الثانية: اعتقل في عام 1964 من قبل أجهزة الأمن والمخابرات مع عدد من أعضاء الحزب بتهمة الانفصال واقتطاع جزء من الوطن.

الثالثة: في عام 1973 اعتقل مع عدد من أعضاء وقياديي الحزب الديمقراطي الكردي- الپارتي الذي كان قد أصدر بيان استنكار على مشروع الحزام العربي(12) الهادف إلى حرمان الشعب الكردي من أراضيهم وتهجيرهم بالقوة، وطالب البيان بضرورة إيقاف تنفيذ هذا المشروع.

مع الأسف بعد اعتقاله واعتقال زملائه نفذ النظام مشروعه، وأضرّوا بالكرد، حيث استقطعوا مساحات كبيرة من أراضيهم ومنحوها للعرب الذين أسموهم بالمغمورين، وبذلك حرّموا عدداً كبيراً من الكرد من حقّهم المشروع في امتلاك أراضيهم.

 

الإفراج عنه وآثار الاعتقال عليه:

   ظلّ المناضل كنعان في سجون دمشق وحلب لحين الإفراج عنه وعن زملائه في عام1981، ولكنه حين غادر السجن كان المرض قد فتك بجسده القوي نتيجة أقسى وأشدّ أنواع التعذيب الوحشي التي تلقاها على يديّ أجهزة الأمن والمخابرات، الذين صبّوا على جسده ونفسه كل غلّهم وحقدهم على المناضلين والمخلصين من شعبه وأمّته، ولكن ذلك لم يضعف من روحه التي ظلت قوية وثائرة وفكره الذي ظلّ نيّراً بالإيمان القوي بحقوق شعبه وطموحاتهم التي لا بدّ أنها ستتحقق مهما طال الأمد.

 

مواقف لا تنسى من حياته:

   الأوّل: نظراّ لمواقفه النضالية البارزة ومكانته الاجتماعية والسياسة في غربي كردستان ولدى شرائح كبيرة من الشّعب الكردي في عموم كردستان فقد زاره الرئيس مسعود بارزاني في منزله بمدينة حلب في الزيارة التي قام بها إلى غربي كردستان عام 1996، ما شكّل دعماً معنوياً كبيراً له، وعرفاناً بالجميل.

الموقف الثاني: كان والده يسمّى ” عكيد آغا” ولكنّ المناضل رفض أن يسمّى ب” كنعان عكيد آغا” بل اكتفى باسم ” كنعان عكيد” وعندما سألت شقيقه العم ميجر عكيد عن ذلك أكد على:

(( أننا جزء من هذا الشّعب، وأنّنا عاهدنا على أن نناضل في صفوف شعبنا كمدافعين ومكافحين حقيقيين بغضّ النظر عن مكانتنا الاجتماعية وصفة ” الآغا” التي نحملها)).

نعم، نأى هذا المناضل بنفسه عن حمل صفة الآغا ليؤكد لشعبنا على أنه شخص مثلهم بعيداً عن الطبقية والأغوية.

الموقف الثالث: هو أب لستة أولاد، ثلاث بنات وجدان وجيهان وزوزان وثلاثة أبناء شيركو، جڤان وروني، وهم ثروته يسيرون على خطاه في النضال والإخلاص للشعب والأرض والقضية.

الموقف الرابع: أخبرتنا به ابنته وجدان قائلة:

(( عندما زرنا والدي في سجن حلب بعدما نقلوه من سجن دمشق إلى هناك، وكنت وقتها مخطوبة إلى ابن عمتي، فأهداني أبي لوحة مزخرفة بمختلف الألوان لفتاة جالسة على كرسي وبين يديها كتاب تقرأ فيه، وقال لي: ” لا أملك في هذه اللحظات وأنا داخل السجن إلا أن أهديك هذه اللوحة هدية لك بمناسبة خطوبتك” لذلك تعدّ هذه اللوحة من أجمل وأغلى الهدايا التي تلقيتها بحياتي حتى هذه اللحظة، وما أزال أحتفظ بها)).

 

 وتقديراً لكلّ ما ذكر عن حياته ونشأته ومواقفه النضالية والاجتماعية فقد أقيمت له جنازة لائقة بمقامه  في 11 أيار 1996 يوم رحيله، شارك فيها الآلاف من أبناء الشّعب الكردي قادمين من مختلف أنحاء الوطن بالإضافة إلى شخصيات من الطوائف والملل الأخرى المتواجدة في المنطقة.

لروحه الطمأنينة والسلام والرحمة ولعائلته ولعموم شعبنا دوام البقاء.

 

**************************

 

شخصيات لا بدّ من ذكرها في حياة كنعان عكيد:

   عندما يتمّ الحديث عن هذا المناضل المخلص لا بدّ من التوقف عند مسيرة رفيقة عمره وحياته أيضاً، لنتأكد من أنّ ما كان يقوم به من نضال وعمل حزبي وسياسي كان لزوجته إضاءة واضحة فيه.

السيدة لطيفة أحمد درويش والتي كانت تعرف في الوسط الاجتماعي باسم ” هدية”. ساندت السيدة هدية زوجها في كلّ مراحل حياته الشّخصية والعائلية والسياسية والنضالية لأنّها كانت ثمرة عائلة متميّزة بحبّها لقومها وشعبها وأرضها، عائلة أحمد درويش، وكان شقيقها المناضل أحمد درويش الذي كان أميناً عاماً للحزب الديمقراطي الكردي في سوريا – الپارتي.

نتيجة هذه التنشئة القويمة والقائمة على حبّ الأسرة والإخلاص للقومية والتضحية بالمال والروح لأرض الوطن والشعب باتت الأمّ المثالية لأولادها والزوجة الوفية لزوجها والمُحبّة لشعبها ومجتمعها، وتحمّلت كلّ الظّروف الصّعبة التي مرّت بها هي وعائلتها لأنّها كانت مؤمنة مثل زوجها وشقيقها وأفراد عائلتها بحقوق شعبها ووجوب عيشهم بأمان وسلام كبقية شعوب العالم، ولا سيما وأنها كانت أمّاً لسبعة أولاد متقاربين في العمر.

دأبت على أن تكون تربية أولادها قائمة على حبّ الوطن ولغتنا الكردية التي علمت أولادها على التّحدث بها على الرّغم من أنّهم كانوا يعيشون في مدينة حلب.

بعد رحيل زوجها ظلت الأم والأب لهم، وظلت صامدة على مواقفها ومخلصة إلى أن وافاها الأجل في شهر آذار من عام 2014، ودفنت في مقابر مدينة ” سيرت” شمالي كردستان حيث منبت عائلتها.

 

  • النّص موثّق في كتابنا المشترك ” رجال لم ينصفهم التّاريخ” الذي صدر حديثاً.
  • الشّكر والامتنان للعزيزين:
  • شيرگو ووجدان كنعان عگيد على توثيقهما ومراجعتهما بعد إعدادي لهذا النّص.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
1 Comment
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
شيركوه عكيد
شيركوه عكيد
2 شهور

كل الشكر والعرفان للاستاذة نارين على هذا التوثيق الموفق .

اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…