ماهين شيخاني
تُعدّ ثورة أيلول التحررية (1961 – 1975) محطةً مفصلية في تاريخ الشعب الكوردي، ليس فقط لأنها استمرت أربعة عشر عاماً، بل لأنها تحولت إلى مدرسة نضالية كبرى اختُبرت فيها إرادة شعب، وتجلّت فيها ذاكرة حيّة لم تتوقف عن بث الأمل عبر الأجيال.
لقد علّق الكورد آمالاً واسعة على ثورة 14 تموز 1958، واستبشروا بسقوط النظام الملكي وقيام الجمهورية الأولى، وظنوا أن صفحة جديدة من الحرية والمساواة ستُفتح في العراق. وكان البارزاني الخالد من أوائل المهنئين بعبد الكريم قاسم، وعاد من منفاه ليشارك العراقيين فرحتهم ببناء وطن يتسع للعرب والكورد وكل المكونات. غير أن تلك الآمال سرعان ما تبددت تحت وطأة الصراعات الداخلية والتوجهات الشوفينية التي همّشت الكورد وقيدت القوى الديمقراطية.
ومع انسداد الأفق، اندلعت ثورة أيلول في الحادي عشر من أيلول عام 1961 بقيادة الملا مصطفى البارزاني. لم تكن مجرد رد فعل على سياسات عبد الكريم قاسم الاستبدادية، بل كانت انتفاضة شاملة ضد محاولات محو هوية الشعب الكوردي وضد عسكرة الدولة وتحويلها إلى أداة قمع بيد السلطة. ومنذ اللحظة الأولى، حملت الثورة طابعًا شعبياً عابراً للعشائر والمناطق، فتوحدت القرى والمدن تحت راية البيشمركة الأبطال.
عبر أربعة عشر عاماً، جسّد الكورد في أيلول ملحمة من الصمود، رغم الحملات العسكرية الواسعة، ورغم تواطؤ دول إقليمية ودولية عملت على خنق الثورة. ورغم النهاية المؤلمة في اتفاقية الجزائر المشؤومة عام 1975، فإن جوهر أيلول لم يُهزم. بل كان بمثابة الشرارة التي أنارت الطريق لثورة كولان عام 1976، واستمرت جذوة النضال حتى تحقق الاعتراف بالحكم الذاتي (1970) ثم الفيدرالية بعد 2003.
إن ثورة أيلول لم تكن حدثاً عابراً في تاريخ العراق أو الكوردستانيين، بل أصبحت ذاكرة متجذّرة في الوعي الجمعي لشعبٍ يأبى الانكسار. ذاكرة تختزن صور البيشمركة وهم يتسلقون الجبال بصدور عارية، وأمهات يودعن أبناءهن بدموع الفخر، وقرى دُمّرت لكنها نهضت من تحت الرماد. هذه الذاكرة لم تتوقف عند حدود الماضي، بل غدت مصدر قوة وإلهام لكل جيل جديد، يرفع شعلة الحرية ويؤمن أن إرادة الشعوب لا تُكسر.
واليوم، ونحن نستعيد ذكرى ثورة أيلول بعد ستة عقود، لا نستحضرها كقصة بطولية فقط، بل كدرس تاريخي عميق. فقد علمتنا أن التضحيات الجسام لا تذهب سدى، وأن كل محاولة لإنكار هوية الكورد وحقوقهم السياسية محكوم عليها بالفشل. كما لقّنت الحكام المستبدين درسًا بليغاً: أن الطغيان يزول، لكن ذاكرة الشعوب تبقى، وأن البنادق يمكن أن تخرس الأصوات مؤقتاً، لكنها لا تستطيع أن تطفئ إرادة أمة بأكملها.
وإذا كان الماضي قد أعطانا دروساً بليغة، فإن الحاضر يضعنا أمام مسؤولية أكبر: وحدة الصف الكوردي، والتعلّم من أخطاء التشرذم والانقسام. إن الحفاظ على منجزات النضال، وترسيخ الفيدرالية، والتطلع إلى مستقبل يليق بتضحيات الشهداء، كلها رهانات لا يمكن كسبها إلا بالتماسك الداخلي والإرادة السياسية الموحدة. فكما كان أيلول صرخةً في وجه الاستبداد، يجب أن يكون اليوم مصدر إلهام لإعادة ترتيب البيت الكوردي، وضمان أن لا تتكرر نكسات الماضي.
لقد كان أيلول ولا يزال رمزاً لإرادة لا تنكسر، وإعلاناً صريحًا أن كوردستان، رغم الجراح والخذلان والمؤامرات، ستبقى أرضاً للشعب الكوردي، وأن سفينة هذا الشعب ستواصل إبحارها حتى ترسو على شاطئ الحرية وحق تقرير المصير.