هيمنة الشعبوية ومأزق التعايش: الحالة الإيزيدية

ا.د. حيدر لشكري

تكشف بعض الأحداث المعاصرة في العراق عمق أزمة التعايش أكثر مما تفعل الخطابات الرسمية. فاعتذار محافظ نينوى من الإيزيديين ثم تراجعه عنه تحت ضغط وسائل التواصل الاجتماعي، وحادثة نادي دهوك الرياضي حين ألغى قميصًا يحمل شمس لالش بعد حملة رقمية، ليستا مجرد تفاصيل عابرة. إنهما مؤشّران على تحوّل نوعي: إذ أصبح الخطاب الشعبوي الرقمي سلطة مهيمنة قادرة على إخضاع النخب وإجبارها على المسايرة، حتى لو كان الثمن التضحية بمبدأ أساسي مثل التعددية.

هذا التحوّل لا يمكن فصله عن الإطار النظري الذي وضعه Panizza & Stavrakakis (2020)، حيث تُعرّف الشعبوية بوصفها منطقًا خطابياً يعيد إنتاج ثنائية “الشعب الحقيقي” في مقابل “الآخر”. في السياق الكردي–الإيزيدي، تُنتج هذه الثنائية صورة للشعب تقوم على عناصر قومية–دينية، بينما يُعاد تموضع الإيزيديين باعتبارهم “آخرًا داخليًا” يمكن إدماجه فقط إذا قبل بالرموز المهيمنة، ويصبح عرضة للإقصاء إذا تمسك برموزه الخاصة. فالاعتذار من الإيزيديين أو الاعتراف برمزهم الديني لا يُقرأ شعبويًا كفعل اعتراف، بل يُعد خيانة أو تهديدًا، وهو ما يفسر العاصفة الرقمية التي أسقطت الاعتذار وصادرت الرمز.

أما النخب الكردية فلا تمارس في هذا السياق دورها التنويري، بل تراوغ وتساير. فهي تتبنّى خطابًا مزدوجًا تجاه الإيزيديين: من جهة، تُبرزهم كجزء من “الأصالة الكردية” عند الحاجة إلى تقديم صورة تعددية أمام المجتمع الدولي؛ ومن جهة أخرى، تعيد تأويلهم داخل سردية قومية تُلغي استقلاليتهم الدينية والثقافية، بوصفهم “كردًا بلا إسلام” أو بقايا دين قديم يثبت عراقة الهوية الكردية قبل الأسلمة. وهكذا يصبح الاعتراف اعترافًا مشروطًا، لا يُقصد به منح شرعية متساوية، بل توظيف جماعة بأكملها ضمن مشروع قومي أكبر.

  ولفهم جذور هذا الوضع لا بد من قراءته زمنيًا. فمنذ التسعينات، ومع صعود الإعلام الحزبي الكردي عقب انتفاضة 1991، صيغت صورة الإيزيديين ضمن خطاب يقوم على الاحتواء الرمزي. فقدمتهم الصحافة الحزبية بوصفهم جزءًا من التنوع الكردي، لكن مع التشديد على كرديتهم العرقية أكثر من ديانتهم المستقلة. وفي المناهج الدراسية، جرى إدراج معبد لالش في إطار قومي باعتباره “معلَمًا كرديًا” أكثر من كونه مركزًا دينيًا خاصًا. وفي الخطاب الثقافي، غالبًا ما عُرضت الإيزيدية كـ”تراث حيّ” أو أثر من الماضي، أي مادة إثنوغرافية تؤكد أصالة الهوية الكردية، لا كديانة حية تطالب بالاعتراف والمساواة. ويمكن وصف هذه المرحلة بمرحلة “الترويض الخطابي”: إذ حُضر الإيزيديون في السردية، لكن حضورهم كان مشروطًا بإعادة تأويل هويتهم ضمن الأطر القومية المهيمنة.

منذ العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، ومع صعود وسائل التواصل الاجتماعي، دخلنا في مرحلة جديدة يمكن تسميتها “مرحلة الإقصاء الرقمي”. فما كان يُقدَّم سابقًا كاحتواء رمزي صار يُعاد تفسيره بوصفه تهديدًا. فالاعتذار الذي كان يُقرأ في التسعينات كخطوة تكتيكية للاحتواء، صار يُعد في زمن الشعبوية الرقمية خيانة للأغلبية. ورمز الشمس، الذي استُخدم في بعض المطبوعات الثقافية باعتباره شاهدًا على الأصالة، صار يوصف على منصات التواصل الاجتماعي كرمز دخيل أو استفزازي. إن هذا التحوّل من الاحتواء إلى الإقصاء يعكس تغيرًا في طبيعة المجال العام ذاته: من مجال تسيطر عليه الأحزاب وتوجّه صورته الخارجية، إلى مجال مفتوح تتحكم فيه جماهير رقمية مسيّسة ومنفعلة.

وهكذا ننتقل من مرحلة كان فيها الإيزيديون موضوعًا للتوظيف الرمزي، إلى مرحلة صاروا فيها موضوعًا للإقصاء الرمزي. ففي الأولى استُخدموا لإغناء سردية قومية تحتاج إلى رموز أصيلة تُقدَّم للعالم، أما في الثانية فيُنظر إليهم كتهديد رمزي يجب محوه أو تهميشه. وإذا كانت النخب في التسعينات تمتلك بعض القدرة على ضبط الصورة لصالح خطابها الرسمي، فإنها في زمن السوشيال ميديا فقدت هذه القدرة وصارت تخضع للضغط الشعبوي الذي يحدد لها المقبول والمرفوض.

الخطاب الشعبوي الرقمي يزيد من حدة هذا الوضع. فهو يعيد صياغة المواقف الرمزية بلغة مشحونة بمفردات “التهديد” و”الخيانة” و”التنازل”. فالاعتذار وُصف بأنه “انحناء مذل” و”خضوع لأقلية”، فيما جرى تأطير رمز شمس لالش كـ”شمس غريبة” أو “رمز استفزازي”. وهذه اللغة لا تترك مجالًا للاعتراف المتبادل، بل تجعل أي بادرة تجاه الإيزيديين خيانة للأغلبية. ومن منظور بورديو، يُمثّل ذلك شكلاً من “العنف الرمزي”، حيث لا يُقصى الآخر بالقوة المباشرة، بل عبر نزع الشرعية عن رموزه وتفريغها من معناها.

من الناحية السوسيولوجية، وكما يؤكد دوركهايم، فإن المجتمعات تبني تماسكها عبر الرموز المشتركة. غير أنّ الحالة الكردية–الإيزيدية تُظهر منع الأقليات من إدخال رموزها إلى الفضاء العام، بما يعني إقصاءها من المشاركة في إنتاج المعنى الجمعي. وهذا الإقصاء يضاعف هشاشة التعايش، إذ يفرض على الإيزيديين العيش داخل هوية لا تعترف برموزهم بل تفرض عليهم رموزًا مغايرة. وكما يوضح غيرتز، فإن الرمز “تكثيف للمعنى”، ومنع الإيزيديين من استخدام رموزهم يساوي حرمانهم من تكثيف تجربتهم الدينية والثقافية في المجال المشترك.

إن ما يجري اليوم ليس مجرد أزمة رمزية عابرة، بل انعكاس لبنية أعمق: هيمنة خطاب شعبوي رقمي يعيد تشكيل المجال العام بمنطق إقصائي، ويجرد النخب من القدرة على لعب دورها التنويري. فبدل أن تدافع هذه النخب عن التعددية، تراوغ تحت ضغط الجمهور الرقمي، ما يؤدي إلى فراغ أخلاقي يجعل التعايش مجرد قشرة هشة. فالاعتذار، الذي يفترض أن يكون علامة احترام، يتحول إلى خيانة، والرمز، الذي يُفترض أن يكون تجسيدًا للتعددية، يتحول إلى تهديد.

إن التحليل الزمني لتطور صورة الإيزيديين في الخطاب الكردي يكشف عن مسار متدرج: من الاحتواء الرمزي في تسعينات القرن الماضي إلى الإقصاء الرقمي في العقد الأخير. لكن ما يجعل اللحظة الراهنة أكثر خطورة هو أنّ هذا التحول لا يقتصر على الممارسة اليومية للتعايش، بل يطعن في معناه الفلسفي ذاته. فالاحتواء الرمزي، على الرغم من طابعه التوظيفي والمشروط، كان ينطوي على قدر من الاعتراف الضمني بوجود الإيزيديين داخل المشهد العام. أما الإقصاء الرقمي فإنه لا يترك مجالًا حتى لهذا التمثيل الجزئي، بل يسعى إلى محو الرموز الإيزيدية وتجريمها لغويًا باعتبارها تهديدًا أو خيانة. وهنا يكمن التحول النوعي: لم يعد التعايش قيمة أخلاقية تقوم على الاعتراف المتبادل، بل صار تكتيكًا سياسيًا تحدده حسابات النخب وخضوعها للخطاب الشعبوي السائد.

وبهذا المعنى نواجه اليوم خطر انهيار المعنى ذاته للتعايش. فلم يعد التعايش مشروعًا أخلاقيًا يستند إلى الاعتراف المتساوي، بل تحول إلى أداة خطابية قابلة للسحب والإلغاء تبعًا للضغط الرقمي أو للظرف السياسي. وهذا الانزلاق من القيمة إلى التكتيك يفرغ التعايش من مضمونه ويحوّله إلى واجهة رمزية لا تصمد أمام أي أزمة. وما يجري مع الإيزيديين في كوردستان ليس شأنًا يخص أقلية بعينها، بل إنذارًا عامًا يهدد البنية الأخلاقية للمجتمع الكردي بأسره. فإذا صار التعايش مجرد مناورة سياسية، فلن يبقى أي ضمان حقيقي لاستمراره. وهنا يتضح أن التحدي الأكبر اليوم لا يكمن فقط في مواجهة الشعبوية الرقمية، بل في استعادة التعايش كقيمة تأسيسية غير قابلة للتفريط أو المساومة.

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
1 Comment
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
خضر دوملي
خضر دوملي
1 شهر

تحليل عميق ومقالة غاية في الاهمية —- نحن فعلا بحاجة الى هذه الافكار البناءة للمساهمة في الحد من الاقصاء وتعزيز الانتماء والاستقرار —

اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…