بدران مستو
لم تتوقف يوماً دعوات المخلصين للقضية الكردية من أجل توحيد الصف الكردي، سواء على الصعيد السياسي أو التنظيمي، عبر جميع المراحل التي مرت بها، غير أن المرحلة الراهنة تختلف جذرياً عن سابقاتها، نظراً لأهميتها التاريخية وما تشهده من مستجدات مؤثرة في مصير البلاد. فبعد ما يقارب سبعين عاماً على تأسيس أول تنظيم سياسي كردي، ومع اندلاع الثورة السورية وسقوط النظام الاستبدادي البائد، نجد أنفسنا أمام مهام نضالية جسيمة وتحديات كبرى، تتطلب توفير كل مقومات النجاح، من خلال تحويل الأحزاب والتكتلات الكردية الصغيرة إلى أحزاب سياسية قوية ، قادرة معاً على المشاركة الفاعلة مع جميع مكونات الشعب السوري في رسم ملامح سوريا الجديدة: دولة اتحادية برلمانية علمانية، تضمن التعددية والديمقراطية، وتصون الحقوق القومية للشعب الكردي. قبل الإسهاب في تفاصيل موضوعنا من الضروري الوقوف على طبيعة الأحزاب الكردية، وتصنيفها ضمن فئتين رئيسيتين:
الفئة الأولى: تمثل هذه الفئة الأحزاب التي كانت قائمة قبل اندلاع الثورة في عام 2011، والتي شهدت على مر السنوات انقسامات داخلية متكررة أدت إلى تصدعها إلى تشكيلات حزبية متعددة، تحمل ذات الأسماء أو أسماء أخرى متشابهة. تتميز هذه الأحزاب بتاريخ طويل من النشاط السياسي المعارض للنظام السابق، ويمكن اعتبارها (الأحزاب الأساسية) في المشهد السياسي.
الفئة الثانية: نشأت أحزاب هذه الفئة في أعقاب الثورة، وتمتاز بصغر حجمها، وكثرة عددها، وافتقارها إلى قاعدة جماهيرية، ومحدودية تأثيرها السياسي، وغالباً ما تدور في فلك الأحزاب الكبيرة، ويمكن تسميتها بـ (الأحزاب الصغيرة).
رغم تعدد الكيانات السياسية الكردية التي تشمل عشرات الأحزاب والمنظمات الشبابية والاجتماعية؛ ورغم نجاحها في تحقيق موقف موحد في كونفراس قامشلو، إضافة إلى استمرار الدعوات المطالبة بانتقال هذه الأحزاب نحو وحدات تنظيمية أكثر فاعلية، إلا أن الخطوات العملية لتحقيق ذلك لا تزال غائبة، هذا الغياب يعكس استمرار حالة الجمود التنظيمي، التي لا تخدم مستقبل هذه الأحزاب، ولا تصب في مصلحة القضية الكردية، إذ لم تعد الأزمة محصورة في اختلاف الرؤى السياسية التي تجاوز معظمها الكونفراس، بل تتجذر في ثلاثة عوامل جوهرية ما تزال تُعمق الأزمة البنيوية، وتستنزف طاقات الحركة الكردية حتى يومنا هذا، وتُبرز حجم التحديات التي تحول دون بناء الوحدات التنظيمية، وهي:
– ضعف الممارسة الديمقراطية: إن ضعف الممارسة الديمقراطية الفعلية داخل الأحزاب الكردية يمثل أزمة بنيوية تُلقي بظلالها الثقيلة على الهيكل التنظيمي برمته؛ يتجلى ذلك بغياب مبدأ التداول الديمقراطي على منصب السكرتير العام، وكيفية انتخاب الهيئات القيادية العليا، حيث تنتشر التكتلات غير المشروعة في المؤتمرات التي تقوض مبدأ تكافؤ الفرص، ما يُفضي إلى إعادة إنتاج نفس القيادات، هذا الواقع يُكرّس حالة من الجمود التنظيمي، ويُضعف روح المشاركة الجماعية، ويحوّل الحزب تدريجياً إلى أداة تخدم مصالح ضيقة وشخصية، على حساب دوره المؤسساتي. ومع استمرار هذا النمط، تتآكل آليات اتخاذ القرار، وتهمش القاعدة الحزبية، وتغيب ثقافة النقد والنقد الذاتي البناء، وفي ظل هذا الانسداد، تضمحل فرص انجاز وحدات تنظيمية مشتركة مع الأحزاب الأخرى، وتبرز تيارات مناوئة للتهميش والاستبداد، تهيئ فرص الجنوح نحو الانشقاق أو التخلي الجماعي عن الحزب، وهو ما يُعد في كلا الحالين دلالة واضحة على إخفاق القيادة في احتواء الأزمة، وبالتالي فإن استمرار هذه الأزمة البنيوية الموصوفة تضع معظم القيادات الكردية نفسها، عن قصد أو دون قصد، في موقع الاتهام بالمساهمة في تعميق الانقسامات وإعادة إنتاج الأزمات التنظيمية.
– الشخصنة والقيادات غير الكفوءة: نتيجةً لظاهرة الانشقاقات وتفكك القيادات المتكرر، يتولد ضعف تنظيمي لدى الأطراف كافة يصاحبها حالة جفاء وشبه القطيعة بين القيادات، ناهيك عن وصول أفراد غير كفوئين إلى مواقع القيادة، يفتقرون إلى الرؤى والمهارات اللازمة، ومع تزايد عدد الأحزاب، سواء عبر الانشقاقات أو التأسيس الجديد، يتضاعف عدد القيادات الحزبية بوتيرة ملحوظة، مما يضيف تحدياً جديداً أمام مساعي التوحيد والاندماج السياسي، وبدلاً من أن تكون هذه القيادات ركيزة للحل، تتحول في كثير من الأحيان إلى جزء من المشكلة، خصوصاً حين تميل بعضها إلى التفرد والهيمنة على القرار الحزبي عبر الاستثمار في الولاءات الشخصية على حساب المصلحة العامة؛ وغالباً ما يُستدل على اسم الحزب من خلال اسم سكرتيره، نتيجة العدد غير الطبيعي، واستمرار تفريخ الأحزاب، هذا المشهد التنظيمي الغير الصحي لا يرقى إلى مستوى عدالة القضية الكردية، بل يساهم بشكل مباشر في تعقيد الأزمة وتعميقها.
– التبعية والمال السياسي: يحظى الإطاران الرئيسيان للحراك السياسي الكردي في روجآفا كردستان (ENKS) و(PYNK) بدعم مادي ومعنوي من جهات كردستانية تختلف في توجهاتها السياسية؛ تنعكس طبيعة العلاقات بين هذه الجهات بشكل مباشر وأقسى على العلاقات بين الأحزاب الكردية في سوريا؛ ويعزى ذلك بواقع التبعية السياسية والتمويل المالي، مما يؤدي إلى تقليص استقلالية القرار السياسي والتنظيمي للأحزاب، ويجعلها عرضة لتأثير إملاءات الجهات الداعمة، وأحياناً تسهم هذه التبعية في تعميق الأزمات الداخلية للأحزاب، وتضعف من حضورها الجماهيري والسياسي، وعليه فإن التبعية السياسية والتمويل يشكلان غالباً عائقاً آخر أمام التنسيق والتقارب بين القوى الكردية.
مراجعة الذات شرط للإصلاح والتغيير:
إن تخطي ذلك الثالوث المعرقل ليس بالأمر السهل، إذ لا يمكن التخلص منه بمجرد عقد الاجتماعات والمؤتمرات، أو بإصدار البيانات والنشرات الدورية، ولا من خلال أنشطة ولقاءات متفرقة هنا وهناك، ما لم تبادر القيادات والكوادر الكردية إلى مراجعة الذات وتصحيح المسار، وذلك يستلزم قدراً كبيراً من الشجاعة الأخلاقية، ويحتاج إلى يقظة الضمير، وعزيمة صادقة لتقويم السلوك، وإرادة قوية لتحقيق الوحدات، ويمكن العمل على هذا المسار في اتجاهين رئيسيين:
الوحدات التنظيمية:
تعد الأحزاب التي انشقت عن بعضها البعض، والتي أسميناها بـ “الأحزاب الأساسية”، الأقرب إلى بعضها من حيث البنية التنظيمية، والاتجاه السياسي، والتاريخ النضالي المشترك، والحاضنة الجماهيرية، مما يجعلها مؤهلة لإجراء عمليات الوحدة والاندماج التنظيمي فيما بينها، بشكل يفوق إمكانية أي تقارب مع الأحزاب الأخرى، غير أن تحقيق هذا الهدف يظل مرهوناً بقدرة قياداتها على كسر الحواجز النفسية فيما بينها، والتخفيف من حدة كبريائها، وتجاوز “الثالوث المعرقل” بالإصلاح والتغيير. أما فيما يتعلق بـ “الأحزاب الصغيرة” التي ليست لها جذور تنظيمية تاريخية مشتركة مع “الأحزاب الأساسية”، فإن المصلحة العليا للقضية الكردية تقتضي أن تبادر هذه الأحزاب إلى اختيار أحد الأحزاب الأساسية للاندماج معه تنظيمياً، إن التوجه المسؤول نحو تنفيذ هذا المقترح، سوف تمثل نقلة نوعية نحو بناء كيانات حزبية أكثر كفاءة وفاعلية، تتسم بالقدرة على سرعة اتخاذ القرار، وتتمتع بقدرة أكبر على الحشد الجماهيري.
المرجعية السياسية الكردية:
بعد مرور أكثر من أربعة أشهر على انعقاد كونفراس قامشلو “وحدة الصف والموقف الكردي”، لم تُثمر نتائجه سوى على بلورة رؤية سياسية مشتركة، وتشكيل لجنة تفاوض، والانتظار المفتوح حتى تبادر السلطة المؤقتة على الدخول في مفاوضات معها. خلال هذه الأشهر التي مضت دون جدوى، لم يسع الطرفان الرئيسيان (ENKS) و (PYNK) إلى استثمار أجواء التفاهم النسبي لفتح حوارات جادة حول الملفات الإنسانية العاجلة، ومعالجتها، وعلى رأسها قضية المعتقلين السياسيين والمغيبين في سجون الإدارة الذاتية، وملف اختطاف الأطفال، وهي قضايا لم تعد تحتمل المزيد من التأجيل أو التسويف، وذلك لتعزيز الثقة بين الطرفين، وتقليص الفجوات، والتأسيس عليها نحو توافق أوسع يشمل ملفات أخرى، تمهيداً لتشكيل المرجعية السياسية الكردية الموحدة، التي تكتسب أهمية إستراتيجية بالغة في مسار النضال السياسي الكردي، خاصة في ظل الظروف الراهنة، لمواجهة التحديات السياسية، وتعزيز وحدة الخطاب السياسي، بالإضافة إلى تمثيل القضية الكردية في المحافل الإقليمية والدولية، وتعزيز حضورها في المفاوضات مع السلطة السورية المؤقتة، كما أنها تسهم في إفشال ألاعيب هذه السلطة إذا أرادت التفاوض مع أحد الإطارين دون الآخر.