صبحي دقوري
في قلب المشهد السوري المتغير، يسطع اسم أبي محمد الجولاني (أحمد الشرع) كرمز يعكس تناقضاً بين صورتين متباينتين: صورة “الحاكم المعتدل” التي يحتفي بها بعض المراقبين، وواقع دموي يكشف عن تحولات عميقة في بنية الإسلام السياسي المسلح. لم يكن ظهوره على الساحة الدولية مجرد استعراض سياسي تعبوي، بل كان تجسيداً لديناميكية معقدة تفرضها توازنات القوى الإقليمية والدولية، مما يعيد تشكيل خرائط النفوذ، حيث تبدو الجماعات المتطرفة كأدوات مرنة تتكيف وتتحول وفق المصالح المتداخلة. في هذا المقال، نعيد قراءة المسار برؤية نقدية، نستكشف كيف يمكن أن تتحول الحركة الطموحة إلى مجرد ورقة في لعبة أكثر تشابكاً، وكيف تكشف الحقائق الميدانية زيف أي ادعاء بشرعية مطلقة. المصافحة كإعلان سياسي، وليس بروتوكولاً
حين التقى الجولاني بقيادات غربية، لم يكن الحدث مجرد لقاءٍ تقني، بل كان رسالة تُترجم فيها المصالح المتبادلة إلى شرعنةٍ مؤقتةٍ وشرخٍ في إطار القوة المعزّزة للسياقات الدولية. المصافحة إذاً ليست مجرد لفتة دبلوماسية، بل إشارة إلى إمكانية المضي قدماً في ترتيبٍ يثبت وجود هذا الكيان على رقعة الشرق الأوسط، شريطة أن يخدم الترتيب مصالح أقوى. هذا التحول في قراءة المصافحة يعزّز فكرة أن “الحاكم المعتدل” لم يكن ثابتاً في موقعه، بل كان أقنعةً تُرفع وتُخفى وفق احتياجات القوة الكبرى، ما يجعل من الجولاني ورقةً ضمن محاور المصالح المتعددة لا زعماً مطلقاً.
إن المشهد الواقعي يسلط الضوء على الفجوة الواسعة بين الصورة المثالية التي رُسِمَت للجولاني كقائد يرفع لواء الاعتدال، وبين دوره الفعلي كفاعل يسهم في توجيه عمليات القتل والتطهير التي تستهدف مكونات وطنية ودينية. إن الجرائم التي ارتكبتها قواته وأتباعه، مثل استهداف الأقليات وتفجير الكنائس وتدمير الأحياء السكنية، لا تبدو مجرد أخطاء تكتيكية، بل هي نتيجة لمشروعٍ يسعى إلى تحويل صراعات القوة إلى ساحة تُروج فيها شرعية القوة الدموية. في هذا الإطار، يتحول الادعاء بالاعتدال إلى أداة لإدارة شرعية ظرفية تعتمد على الدعم الدولي أو الإقليمي الذي يقرر مصير بقائها أو زوالها. وهكذا، يتحول الجولاني من قائد يسعى لمحاكاة الدولة إلى مجرد ورقة تتلاعب بها الأهواء لتحقيق المصالح، ثم تُلقى في غياهب النسيان عند تبدل الظروف. فيما يتعلق بموضوع التطبيع وخيار الانفصال، فإن التطبيع مع إسرائيل وتبادل السفراء يضعان هذا المشروع في إطارٍ أوسع، حيث يمتد تأثيره من ساحة الحرب المحلية إلى آفاق الترتيبات الإقليمية. إن العودة إلى مناقشة التطبيع ليست مجرد خطوة تكتيكية، بل هي تساؤل عميق حول مدى استمرارية فكرة التنظيم المتطرف ككيان سياسي ضمن نظام تحكمه توازنات معقدة. لم تقتصر إسرائيل على مراقبة المشهد المتغير، بل شاركت بنشاط في إعادة تشكيل خطوط النفوذ، بينما لعبت تركيا دورًا محوريًا يتجاوز مجرد الدعم العسكري، حيث أسهمت في فعل سياسي واقتصادي يفتح أفقًا جديدًا لرسم الخرائط. في هذا السياق، تبرز مفارقة مثيرة: كيف يمكن لحركة كانت قد أعلنت عداءً صريحًا للغرب أن تتحول إلى أداة في يد الدول التي زعمت أنها تحاربها؟ تكمن الإجابة في منطق المصالح المتشابكة وتجسيدها في شبكةٍ من التحالفات المعقدة. والتفاهمات قصيرة العمر.
هناك تجارب تاريخية تُقدم رؤيةً أكثر قرباً من الحقيقة: طالبان في أفغانستان، وبابلو إسكوبار في أميركا اللاتينية، تعدّ كلاهما نماذج تُبرز أن الشرعية التي تُستند إلى خطاب العنف والهزيمة لا تستطيع الصمود أمام الحقائق الملموسة ونتائجها الاجتماعية. فكلما زادت الجرائم، وتفاقمت الوعود الكاذبة، تزداد رغبة المجتمع في الانفصال عن تلك الشرعية، مما يفتح المجال لمحاولات إعادة تعريف القوة كوسيلة للهيمنة، لا كغاية نهائية. في هذا السياق، تكشف التطورات في سوريا والمنطقة أن الشرعية ليست منتجاً يُكتسب من خلال شعارات جوفاء، بل تُثبت من خلال قدرة المجتمع على التماسك والتغلب على الانقسامات، فضلاً عن قدرته على مساءلة الأطر السياسية عبر آليات محلية فعالة. والتأكيد والإصرار على
تعزيز الحوار الوطني والتسوية السياسية التي تشارك فيها كافة المكوّنات السورية دون إقصاء، مع حماية الحقوق الأساسية للمواطنين وحقوق الأقليات.
وتقوية آليات المساءلة والمحاسبة على مستوى المحلي والدولي، ومكافحة تمويل الأعمال الإرهابية ومراقبة الشبكات الداعمة لها.
الاستثمار في تعليم مدني يعزز المواطنة، ويقلّص من تغذية خطاب الكراهية والتطرف.
تشجيع مبادرات التعايش السلمي وتوثيق العلاقات بين المكونات السورية كخط دفاعٍ أول ضد الانقسامات المتكررة.