صبحي دقوري
أولًا: التصحيح المفاهيمي حول المفردات
أولًا، لندعِ الكلمات التي تحمل صبغة الإدانة جانبًا، ونحتكم إلى كلمات تعكس الواقع التاريخي والحقوقي. الكورد ليسوا في طبيعتهم ينتظرون الانفصال كخيار عدائي ضد أحد، بل يسعون إلى استقلالية سياسية وثقافية واقتصادية تتيح لهم إدارة شؤونهم ضمن إطار يحترم كرامتهم وحقوقهم الإنسانية. الفرق بين الانفصال والاستقلال واضح: الانفصال فصل جزء عن الكل دون وجود ضماناتٍ واقعية للخروج من الواقع القسري كما هو، بينما الاستقلالية تعني حقًا في تقرير المصير وتحديد مستقبل الأمة وفق إرادتها وبما يحقق عدالة الطموحات القومية والإنسانية.
ثانيًا: الأصل التاريخي والحقوق المشروعة
الكورد أمة تاريخية لها وجود لغوي وثقافي وجغرافي محدد. لهم لغة حية وهُوية ثقافية عميقة، ولهم أرض تاريخية عاشوا عليها آلاف السنين، ولهم تراث عريق في العادات والتقاليد والتاريخ المشترك. وهذه المقومات، وفق مبادئ العدالة وحقوق الشعوب، تستلزم تقييم المدلول السياسي المناسب لمسألة الهوية وتقرير المصير. كما أن القوانين الدولية ومواثيق حقوق الشعوب تؤكّد حق كل أمة في أن تختار طريقها السياسي بحرية، وبما يضمن حماية الأقليات وحقوق الإنسان للجميع.
ثالثًا: البنية الأساسية لتكوين قومية وتحدي البقاء
الله تعالى والمنظومة الاجتماعية والإنسانية يميزان الأمم عبر عناصر كثيرة، منها اللغة والهوية والخصوصيات الثقافية. اللغة كآية من آيات الله في التنوع البشري، وهي جزء من مقومات وجود كل أمة وتفردها. الكورد، مثلهم مثل شعوب أخرى، يمتلكون تاريخًا وثقافةً ومكوّناتٍ اجتماعيةً تشكّل رافعةً لإمكانات أمتهم في بناء المستقبل. هذا لا يعني تجاهل حقائق العيش المشترك مع شعوب المنطقة، بل يعني الاعتراف بحقوقهم في أن تكون لهم خياراتهم السياسية والثقافية والاقتصادية ضمن إطار يحترم الحقوق المتبادلة.
رابعًا: التمييز بين الدين والهوية السياسية
في النص القرآني والمرجعيات الدينية الأخرى، كثيرًا ما تُطرح قيم العدالة والكرامة الإنسانية وحقوق الشعوب في التعارف والتعاون. اللغة واللون والتاريخ والهوية الثقافية ليست سوى عناصر تشكّل اللبنات الأساسية لتكوين قومية مستقلة بذاتها. من هنا، فإن الحديث عن استقلالية كوردية ليس اتهامًا لأحد، بل حق مشروع ينطلق من تاريخهم ووجودهم وحقوقهم الثقافية واللغوية والاقتصادية.
خامسًا: التنوع داخل المجتمع الكردي وبين الشعوب المحيطة
لا ننظر إلى الكورد ككتلة كاملة بلا اختلافات داخلية، فهناك تنوّع في التوجهات والآمال والطرق للنضال السياسي. وهذا التنوع يجب ألا يشتت الهدف العام الذي يقوم على احترام الحقوق والكرامة الإنسانية وتحقيق الاستقرار والسلام والعدالة للجميع. لا يجوز تبخيس أي صوت داخل المجتمع الكردي، كما لا يجوز إهانة أو التحريض ضد أي طرف من الأطراف المقيمة في المنطقة. المسألة هنا حقوقية وسياسية تتعلق بمستقبل الشعوب، وليست مجرد خطاب تهكمي أو اتهامي.
سادسًا: الإضاءة على الواقع السياسي والحقوقي
إن النزعة إلى الاستقلالية عند الكورد تنبع في الأساس من تجارب طويلة من الإقصاء والتمييز، ومن قصص نضال طويلة من أجل الاعتراف بالهوية وبحقوق الثقافة والتعلم بلغتهم الأم وبالحقوق السياسية والمدنية. الظلم عند أي شعب ليس مبررًا لإسقاط حقه في البحث عن حياة كريمة، بل هو سبب مشروع لدراسة الخيارات السياسية والسلمية التي تحقق العدالة، وتسمح بإنتاج مجتمع أكثر مساواة واحترامًا للجميع. لا بد من الاعتراف بأن الاستقلالية ليست هدفًا فرديًا أو بديلًا عن الشراكة الإيجابية، بل خيار سياسي يستهدف بناء مستقبل يعزز المشاركة والحقوق المتساوية للمواطنين جميعهم في الإقليم.
سابعًا: دعوة إلى الخطاب المسؤول
إذ نكتب هذا المقال، فإننا نستند إلى قيم الحوار المدني واحترام الإنسان وحقوقه الأساسية. الدعوة إلى استقلالية لكردستان ليست دعوةً إلى إقصاءٍ أو حقدٍ، بل طلبٌ للعدالة وتأكيدٌ لحق الشعوب في العيش بكرامة وبناء مستقبلها بطرق سلمية وقانونية وبناءة. وبالمقابل، يجب الحفاظ على وضعٍ يضمن حقوق الأقليات ولغة الأداء السياسي المشترك في إطارٍ يحترم التنوع، ويعظم من فرص التعاون الإقليمي والسلام والاستقرار
إن حلم الاستقلالية الكردية ليس وليد اللحظة، بل نتاج سير تاريخي طويل من العطاء والإصرار والكرامة. وهو ليس عداءً لأحد، بل تعبير عن حق الإنسان والشعب في اختيار مصيرهم ضمن إطار دولي يحترم الحقوق الإنسانية والكرامة العامة. ولأجل ذلك، فإن النقاشات بهذا الشأن يجب أن تكون قائمة على الاحترام المتبادل، والالتزام بالقانون الدولي، وفِي أقصى درجات الحوار السلمي البنّاء الذي يعزز من فرص العيش المشترك والتقدم لجميع شعوب المنطقة دون استبعاد لأحد.