إبراهيم اليوسف
تتأرجح شخصية دونالد ترامب التي تملؤها التناقضات بين القوة والهشاشة، بين الجرأة والاندفاع الأعمى. ولعل بروزه في المشهد السياسي الأمريكي والعالمي لم يكن وليد المصادفة، بل هو نتاج طبيعة تشكّلها ظروف اجتماعية وثقافية معقدة، أنتجت رجلاً متعطشاً للسلطة والنجاح مهما كان الثمن، ويتجاهل المبادئ والقيم ما دامت تقف حائلاً دون تحقيق طموحاته. حيث تبرز في سيرة ترامب ظاهرة لم تعد أسيرة حالة مجرد شخص؛ بل عكست- حقيقة- ملامح عصر مضطرب مهووس بالمظاهر، يعلي من شأن القوة الاقتصادية والسياسية على حساب الأخلاق. فقد نشأ في بيئة غنية، وترعرع خلال ذلك على قيم القوة الفردية المتغلبة على التحديات، وحمل منذ الصغر روحًا ترى في الحياة معركةً لا مكان فيها للضعفاء. منظومة القيم العائلية لترسخ في نفسه رغبة جامحة في التفوق والسيطرة، من دون أن تكون الأخلاق جزءاً من عالمه، بل شُيدت شخصيته على أساس الربح والسلطة؛ ولذا، فقد تجسد حلمه الأول في بناء إمبراطورية تضج بالمظاهر، بحيث أن كل خطوة، أو كل قرار، كانت تدفعه نحو تحقيقهما رؤيته الفردية لعالم القوة المطلقة. إذ تربى على مفهوم النجاح المستند إلى السيطرة وتوسيع النفوذ، وبهذا التكوين، تبلورت شخصية جاهزة للاندفاع نحو أي فرصة تتيح لها الصعود، متغافلةً عن كل ما يمكن أن يعترض طريق الطموح.
الإمبراطورية فوق المبادئ
دخول ترامب عالم الشركات لم يكن سعيًا لتحقيق إنجازات اجتماعية أو إنسانية، بل كان طريقًا واضحًا نحو بناء إمبراطورية لا تعترف إلا بالربح والسيطرة. مشاريعه التي غزت المدن بأبراجها الفاخرة وصروحها الشاهقة كانت صرحًا يعبّر عن رغبة فردية عميقة في تحقيق التفوق الرمزي على جميع من حوله. فالمال لم يكن وسيلة، بل غاية بحد ذاتها، يُسخر من أجله كل جهد و حنكة.
وأن شعاره “أمريكا أولاً” الذي أطلقه كسيفٍ على رقاب خصومه، كان في الواقع انعكاساً لرغبة تجارية بحتة، تحركها دوافع السيطرة المطلقة. فلم يترك مساحة للتعاطف مع الناس أو القيم الأخلاقية؛ حيث إن كل مشروع وكل صفقة كانا بالنسبة له خطوة نحو بناء صورة لنفسه كرجل لا يُقهر، واضعاً مشروع إمبراطوريته فوق المبادئ والقيم الإنسانية.
الشعبوية والسلطة: الجمهور كأداة
إن نجاح ترامب السياسي اعتمد على نحو أساسي على خطاب شعبوي يغازل مخاوف الناس وهواجسهم، واستطاع بمهارة أن يجعل من القلق الشعبي أداة يخدم بها طموحاته. لم يسعَ لحل الأزمات أو تقديم حلول حقيقية؛ بل عمد إلى تأجيج المخاوف، مستغلًا قضايا الهجرة والأمن والاقتصاد كوسائل لجذب الأنظار. براعته في اللعب على العواطف حولته إلى رمز شعبي لدى العديدين، رغم عدم تقديمه لأية رؤية متماسكة حول كيفية تحسين الواقع.
خطابه استغل الشعبوية كوسيلة لبلوغ السلطة، ومثل الشعب أداة يستطيع بوساطتها التلاعب في صناعة مواقفه ومبادئه المعلنة. لاسيما حينما أراد أن يرى فيه الجمهور الزعيم القوي الذي يتحدى جميعهم، حتى وإن كان هذا التحدي لا يحمل سوى وعود زائفة، تطلق على المنابر دون أي رغبة حقيقية في تجسيدها على أرض الواقع.
الأزمات الإقليمية: تركيا وروسيا وأوكرانيا
في علاقاته الخارجية، ظهر ترامب كزعيم غير متوقع المواقف، يتحرك بين علاقات متناقضة تعكس فلسفته التي تمزج بين المصالح التجارية والقرارات السياسية. وما تركيا إلا مثال بارز على ذلك، فقد وجد في علاقته معها وسيلة لتعزيز مصالحه، متغافلاً عن المسائل الحقوقية والسياسية التي يدعي التزامه بها. عوضاً عن الالتزام بقيم الديمقراطية أو حقوق الإنسان، كانت المصلحة السياسية والاقتصادية هي الدافع الوحيد الذي يحدد مواقفه تجاه تركيا، دون ثباتٍ أو تماسك.
فقد شكلت روسيا بالنسبة إليه تحدياً آخر؛ إذ حاول ترامب إقامة علاقاتٍ ودية مع بوتين، رغم الحساسية العالية التي تتسم بها علاقة بلاده بروسيا. هذه الصداقة الغامضة أثارت استياء المؤسسات السياسية في بلاده، لكنها كانت جزءاً من استراتيجيته التي تعلي من شأن الربح الفوري. كما أن مواقفه تجاه أوكرانيا عكست ازدواجيته؛ فمع أن تصريحاته لم تكن ثابتة، إلا أن حسابات المصلحة كانت العامل الأساسي في اتخاذ القرار، ما زاد تعقيد المشهد السياسي الإقليمي والدولي، وليس غريباً أن يقول في لحظة ما: كفى! اعتمدوا على أنفسكم، تاركاً أوربا التي تدفع الضريبة في المواجهة، لنكون أمام انهيار أكبر، غير محمود العقبى.
الفوضى وإشكال الرؤية: ترامب في مواجهة العالم
إدارة ترامب السياسية تميزت بفوضوية غير مسبوقة، جعلت من قراراته وتحركاته السياسية محفوفة بالتناقض والاضطراب. عجزه عن تبني رؤية استراتيجية متماسكة جعله يقود الولايات المتحدة نحو زعزعة القيم الديمقراطية التي قامت عليها، فالقرارات المرتجلة والخطابات العاطفية لم تكن أكثر من تعبير عن رغبة جامحة في كسب التأييد دون الالتزام بخطى ثابتة.
حاول بناء زعامة سياسية على أساس من الفوضى المتعمدة، حيث تتخذ القرارات بطريقة سريعة ودونما اعتبار للعواقب. هذه الفوضى باتت تهديدًا ليس فقط لاستقرار بلاده، بل لمستقبل العلاقات الدولية، إذ تحولت قراراته إلى صدمات متوالية للعالم أجمع. كل خطوةٍ اتخذها كانت تفتقر إلى الأفق الذي يتطلبه التعامل مع قضايا بهذا الحجم، مما حوله إلى رمزٍ للفوضى.
الانقلابية والتغيرات المحتملة: هل هناك ترامب آخر؟
كثيرًا ما يُطرح السؤال: هل يمكن لترامب أن ينقلب على ذاته، فيعيد بناء شخصيته، ويتحول إلى رجل آخر؟ في الواقع، يمثل ترامب شخصية متمحورة حول ذاتها، لا ترى في النقد الذاتي سوى علامة ضعف. رجلٌ لا يقبل أن ينقلب على ذاته، لأن التحول يتطلب قدرة على مواجهة العيوب. من المستبعد أن يظهر “ترامب آخر”، إذ يمثل التغيير بالنسبة له خيانة لطبيعته، وقيمه التي تعلي من شأن القوة والنفوذ الفردي على حساب أي قيمة أخرى.
شخصية ترامبية كتلك تعيش في عالم مغلق، غير قادر على التكيف أو إعادة التقييم. لكل رجلٍ رحلة من الانعطافات، لكن في حالة ترامب، تبقى الاحتمالات محدودة، لأن عملية التحول على ما يبدو لا تقع ضمن إطار قناعاته. كل هذا ليس غريباً إذا دققنا في أمرين: هوية ترامب الأصلية وسلوكه التعويضي الثأري!:
فهو حفيد اللاجئ الألماني الذي هرب أجداده من الحرب إلى أرض جديدة، يقف اليوم في تناقض غريب مع أصوله. ليس فقط مناهضاً للمهاجرين، بل يحمل أيضاً مواقف سلبية تجاه ألمانيا نفسها، البلد الذي مثّل لأسلافه بداية الرحلة. كأنّه ينأى بنفسه عن تاريخه العائلي، متبنياً مساراً مضاداً يعمّق من شعوره بالبطولة المصطنعة، كمن يعيد كتابة ماضيه بألوان الحدة والرفض. بهذه الصورة، يتحول ترامب إلى رمز للتعارض بين الهوية والأفعال، وبين العمق العائلي والميول الفردية التي تتصارع داخله في رغبة لا تنتهي لإثبات الذات، حتى لو كان على حساب أصوله وجذوره.
ترامب كصورة للعصر المضطرب
في النهاية، يعكس ترامب صورة كاملة عن عصر فقد بوصلته الأخلاقية، واندفع نحو أمواجٍ من النزاعات والمصالح المتشابكة. يمثل صعوده رمزاً لزمنٍ تتلاشى فيه القيم، وتهيمن المصالح الفورية، حيث تصدّر الخطاب الشعبوي مشهدًا سياسيًا تتقلب فيه المواقف بتقلب المصالح.
هكذا تجسد ترامب كأيقونة للأزمات المتفاقمة في زمنٍ مضطرب، زمنٍ يختصر القيم والمبادئ لتصبح شعاراتٍ جوفاء، ويسود فيه الطموح الفردي على حساب الجماعات والأوطان. تبدو ملامح شخصية ترامب غير قابلة للتغيير، لتبقى مرآة تعكس قلق الحاضر وسراب المستقبل، وتذكرنا بمدى الهشاشة التي باتت تكتنف النظام السياسي المعاصر.
ترامب والشرق الأوسط: هل يمكن للعلاقات أن تتجاوز حدود المنفعة؟
سياسة ترامب في الشرق الأوسط، شأنها شأن كل استراتيجياته، لم تخلُ من مبدأ الربح الفوري والمصلحة الآنية. كل خطوة، من انسحاب القوات إلى إبرام صفقات كبرى، كانت توجّهها حسابات دقيقة تهدف إلى تحقيق أقصى فائدة للولايات المتحدة، دون اكتراث فعلي بتأثيرات تلك القرارات على استقرار المنطقة وشعوبها. هذا النمط النفعي، حيث تبدو العلاقات السياسية والاقتصادية رهينة للأهداف الفردية والآنية، جعل من المستبعد أن تتحول هذه العلاقات إلى ما يتجاوز حدود المنفعة.
لكن، هل هناك فرصة لعلاقات تُبنى على أسس مختلفة؟ في الحقيقة، تمثل سياسة ترامب نموذجاً صارخاً للنهج المنفعي؛ فمن الصعب تصوّر أن يتجه إلى مبادرات تتخطى ذلك. ومع ذلك، يمكن القول إن العالم بحاجة إلى نوع جديد من العلاقات يتجاوز الحسابات الضيقة، حيث يُنظر إلى الشركاء الإقليميين كشركاء حقيقيين، يُحترم دورهم في استقرار وازدهار المنطقة.
إن أي تحول جذري في السياسة الخارجية الأمريكية، سواء في عهد ترامب أو غيره، يتطلب تفكيراً جديداً يعيد النظر في مصالح الشرق الأوسط كشريك أساسي، لا مجرد ورقة تفاوض. هذا الطموح يبقى بعيد المنال في ظل رؤية ترامب، ما لم تحدث تغييرات عميقة في فلسفته السياسية وأهدافه الأساسية
ترامب والكرد: احتمالات مفتوحة بين الكفارة والمصلحة
علاقة ترامب بالكرد، كحال كثير من مواقفه الخارجية، كانت متذبذبة، مبنية على حسابات المصلحة اللحظية أكثر من مبادئ ثابتة. في مرحلة ما، قدم دعمه للكرد كشركاء في محاربة الإرهاب، لكن هذا الدعم تراجع حين تطلبت مصالحه ذلك، وتحديداً حين قرر الانسحاب من روج آفايي كردستان، تاركاً الكرد يواجهون التحديات بمفردهم. هذا القرار أحدث صدمة وألمًا، كونه كشف مدى هشاشة العلاقات المبنية على المصالح الآنية لا على قيم مشتركة.
لكن السؤال المطروح: هل يستطيع ترامب في عودته السياسية أن “يكفر” عن هذه الخيانة، ويعيد تقييم موقفه ليمنح الكرد دعماً يليق بحقوقهم وتضحياتهم؟ من المستبعد أن تكون رؤية ترامب مختلفة، فهو براغماتي حتى النخاع، يعلي من شأن المصلحة على كل اعتبار.
بينما بايدن، الذي وعد الرئيس مسعود بارزاني ذات يوم بقوله: “أنت وأنا سنرى كردستان المستقلة”، يبدو أن أوضاعه السياسية والصحية قد جعلته يتراجع عن هذا الوعد، ويضعه في خانة الوعود المنسية، رغم أهميته التاريخية.
للحقيقة والتاريخ:
رهانات ضائعة وآمال مؤجلة
مواقف ترامب وبايدن وغيرهما من رؤساء أمريكا تجاه الكرد تكشف عن ازدواجية السياسة الأمريكية في المنطقة، حيث تبقى الحقوق والوعود خاضعة للتقلبات السياسية الآنية. هذا الواقع يفرض على الكرد تقييم حساباتهم بشكل أكثر حذرًا، واضعين في اعتبارهم أن المصالح السياسية للزعماء غالبًا ما تكون قابلة للتغير؛ فتظل قضيتهم رهينة تقلبات القادة وخضوعهم لمصالحهم الخاصة.
أناللحقيقة و مرحلة أوباما وبايدن: رممت صورة ترامب؟
تُعتبر فترة حكم باراك أوباما وجو بايدن من أسوأ المراحل في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية من منظور العديد من المواطنين والمراقبين، خاصة في مجالات الاقتصاد والسياسة الخارجية. هذه الحقبة، وما شهدته من أزمات مالية، وارتفاع معدلات البطالة، وتدهور العلاقات الدولية، ساهمت بشكل غير مباشر في صعود دونالد ترامب ونجاحه في الوصول إلى البيت الأبيض.
أوباما، الذي تولى منصبه في أعقاب الأزمة المالية الكبرى في 2008، واجه تحديات اقتصادية ضخمة تتطلب إصلاحات جذرية. رغم بعض التقدم الذي تحقق، إلا أن العديد من الأمريكيين شعروا أن هذه الإصلاحات لم تكن كافية لتحسين حياتهم بشكل ملموس، ما أدى إلى تنامي مشاعر الإحباط والقلق. في هذا السياق، بدأ ترامب في تقديم نفسه كبديل قادر على إحداث التغيير الجذري، معتمدًا على خطاب شعبوي يهاجم فشل الطبقة السياسية التقليدية.
أما إدارة بايدن، التي جاءت في وقت كان فيه العالم يعاني من تبعات جائحة كورونا وما خلفته من أزمات اقتصادية واجتماعية، فقد واجهت تحديات أخرى أبرزها التضخم وارتفاع الأسعار، ما أثر بشكل مباشر على المواطنين الأمريكيين. الركود الاقتصادي والغلاء جعلا العديد من الأمريكيين يتوجهون مجددًا إلى ترامب، معتقدين أنه القادر على تصحيح المسار وإعادة الاقتصاد الأمريكي إلى وضعه الطبيعي.
من هنا، يمكن القول: إن مرحلة أوباما وبايدن شكلت بيئة خصبة لصعود ترامب، وتعزيز صورته، وتقديمه: كمنقذ، حيث ساعدت الأزمات الاقتصادية والسياسية على تعزيز صورة ترامب كبديل للحكومة التقليدية في نظر قطاعات واسعة من الشعب الأمريكي.
أجل. إن مرحلة حكم بايدن شكلت أو واجهت تحديات اقتصادية معقدة، تراكمت على إثرها مشكلات الركود وارتفاع الأسعار، ما انعكس سلبًا على الحياة اليومية للمواطن الأمريكي. هذه الارتفاعات المتسارعة في تكلفة المعيشة وتباطؤ النمو الاقتصادي، خلقت حالة من الاستياء العام، وشعورًا بخيبة أمل تجاه الوعود التي قدمها بايدن لشريحة واسعة من الشعب. هذه الظروف، من حيث لا تدري إدارة بايدن، مثلت بيئة خصبة لترامب، إذ رأى في معاناة المواطنين فرصة لتجديد شعبيته وتأكيد مواقفه الناقدة.
بايدن الذي وعد بتحسين الاقتصاد وتخفيف العبء المعيشي، وجد نفسه في مواجهة أزمات، لم يتمكن من الحد من آثارها. ونتيجة لذلك، أصبح المواطنون أكثر استعداداً للاستماع لترامب، الذي لطالما طرح نفسه كحامي الاقتصاد الأمريكي وصانع فرص العمل. الركود والغلاء، بتأثيراتهما العميقة، لم تخدما ترامب مباشرة، بل عبر تعزيز شعبيته بشكل غير متوقع، وجعله يبدو في أعين الكثيرين كبديل محتمل لاستعادة النمو والاستقرار.
- المصادر والمراجع:
انطباعات الذاكرة
أخبار ومصادر أنترنيتية معدة بهذا الصدد!