إبراهيم اليوسف
تعرض الكرد، عبر العقود الماضية، لحملات متكررة من التشويه والتشكيك في انتمائهم، ووصلت إلى حد اتهامهم بالأسرلة، بعد الثورة الكردية في بداية الستينيات من القرن الماضي في كردستان العراق، وفي مطلع التسعينيات، وكأنهم مطالبون وحدهم بتقديم فروض الولاء والطاعة لشعوب المنطقة، دون أن يتم منحهم الحد الأدنى من حقوقهم القومية. وما يثير السخرية أن هذه الاتهامات تأتي من جهات لم تتردد في رفع أعلام دول أخرى، أو التحالف مع قوى خارجية حينما دعت الحاجة، دون أن يواجهوا انتقادات مماثلة. إذ نجد ثمة من يهللون لتركيا كي تبني قواعدها في سوريا للإجهاز على الكرد، من دون أن يدروا أن ما ستأخذه تركيا لقاء ذلك أكبر وأعظم من الحق الذي يمكن إعطاؤه للكردي، كي يتم استكمال المشروع الوطني- حسب حلمهم- كي يغدو ذلك قيداً وأسراً واحتلالاً لإرادة الكردي، ونقلة أسوأ من عهود البعث ودكتاتورييه!
لطالما استخدم بعض القومويين العرب مصطلح ال”خنجر في خاصرة الأمة العربية” عند الإشارة إلى كردستان العراق، رغم أن التاريخ يوثق بشكل لا يقبل الجدل أن الكرد كانوا دومًا سندًا لأخوتهم العرب، قبل حروب صلاح الدين الأيوبي “1137-1193” وحتى هذه اللحظة، حيث دفاعهم المستمر عن وحدة الأراضي التي يعيشون عليها جنبًا إلى جنب مع شركائهم في المنطقة. لقد كان للحفاظ على الإسلام واللغة العربية، فضل كبير للكرد، الذين شكلوا رأس الحربة في التصدي للغزو الصليبي، بقيادة صلاح الدين الأيوبي الكردي. إلا أن الثمن كان باهظًا، حيث تشتت الكرد في مختلف البلدان العربية، من فلسطين والأردن والسودان والمغرب إلى اليمن ومصر إلخ، ناهيك عن كرد في أفغانستان- باكستان إلخ، وتحول الملايين منهم إلى جزء من خرائط الآخرين، دون أن يُسمح لهم بالحفاظ على هويتهم.
كان اعتماد صلاح الدين على الكرد لشجاعتهم في طرد الصليبيين أحد الأسباب التي دفعت القوى الغربية لاحقًا إلى الانتقام من أحفاده، عبر تقسيم كردستان في معاهدة سايكس بيكو “1916” وحرمان الكرد من دولتهم في اتفاقية لوزان”1923″. هذا التشتيت المتعمد كان خطوة لضمان عدم تكرار تجربة صلاح الدين في توحيد المنطقة ضد الغزاة.
والغريب أن من يرفعون عقيرتهم بالاحتجاج على صورة شخص كردي رفع علم إسرائيل، هم أنفسهم من صمتوا تمامًا عندما شاهدوا العلم التركي يرفرف فوق مناطق احتلتها تركيا في سوريا، بل إن بعضهم ارتدوا “الزي العسكري التركي”، وخدموا تحت راية الجيش التركي دون أي إحساس بالتناقض أو المهانة. لم نسمع صوتًا واحدًا ذان شأن من هؤلاء يستنكر هذا الولاء لتركيا، لكن صرخات الاستنكار تعالت حينما قام شاب كردي، كردة فعل، برفع العلم الإسرائيلي في لحظة من الانفعال.
لقد أصبحت سوريا مسرحاً للأعلام: من أعلام إيران إلى علم حزب الله، وأعلام أمريكا وروسيا وغيرها من الدول الأجنبية، إلا أن علم كردستان، الذي يرفعه مواطنون كرد سوريون، بات مستهدفاً من قبل هؤلاء العنصريين الذين يرفضون مجرد رؤية رمزٍ يعبر عن هوية أصحابه، رغم أنهم الأكثر تجذراً في هذه الأرض.
علينا ألا ننسى أن السنوات الأربع عشرة الماضية من الحرب حولت سوريا إلى مسرح تتنازعه قوى متعددة، وشهدت البلاد تدخلاً من كل الاتجاهات. جيل الشباب الذي نشأ في ظل هذه الفوضى، لا يتعامل بالضرورة مع القضايا التقليدية بالمنظور نفسه الذي تبنته الأجيال السابقة. هذا الجيل يتفاعل مع الأحداث بمعطياته الجديدة، وبردود فعل تتناسب مع ما تعرض له من حملات التكفير والاضطهاد القومي.
ألا يدرك هؤلاء الذين يثيرون هذه الضجة أن آلاف اليهود من أصول كردية لا يزالون يحتفظون بلغتهم وتقاليدهم؟ ألا يعلمون أن نوروز يُحتفل به في” إسرائيل” نفسها، بين الجالية الكردية هناك؟ فلماذا يُطلب من الكردي أن يستمر كي يكون فلسطينيًا أكثر من الفلسطينيين أنفسهم، رغم كل تضامني مع المظلومين من أهلنا في فلسطين ومنهم مئات الآلاف من الكرد الذين تم تذويبهم في بوتقة العرب الفلسطينيين، بينما يُسمح للآخرين بأن يقيموا علاقات مع تركيا المحتلة لأراض كردية دون أي اعتراض؟
الازدواجية في المعايير هي جوهر المشكلة. النظام السوري ذاته أقام علاقات استراتيجية مع تركيا قبل الثورة، وصرح بشار الأسد صراحةً بأن “إقامة دولة كردية خط أحمر”، خلال شهر العسل التركي السوري *2004، ومع ذلك لم نرَ أحدًا ينتقده على ذلك. في المقابل، حينما يطالب الكرد بحقوقهم، فإنهم يُتهمون بالتآمر والانفصال.
أما المعارضة السورية، التي يفترض أنها جاءت لتصحيح مسار الحكم، فقد وقفت إلى جانب تركيا في احتلالها لعفرين، فقد عاثت قتلاً وفساداً وسطواً واعتداءات وانتهاكات في عفرين، وسلمت معتقلين كردًا للسلطات التركية، بدلاً من أن تدافع عن وحدة الأرض السورية بالفعل وليس بالشعارات. وإذا كانت إسرائيل تُدان لاحتلالها أراضي عربية، من قبل سوريين، فلماذا لا تُدان تركيا لاحتلالها أراض سورية، من قبل هؤلاء السوريين أنفسهم الذين يفتقدون نعمة اكتمال معادلة النخوة؟
إن الكرد أمة تاريخية عريقة بينها: يهود، مسيحيون، مسلمون، إيزيديون، مسلمون بكل طوائفهم: السنة، العلويون، الشيعة، الدروز، ومن حق كل منهم أن يرفع علمه الكردي، ولو كانت هناك دولة كردية لرأيت ربع سكان سوريا يظهرون كرديتهم إن لم أقل ثلثهم.
ليس الكرد من يرفعون علم إسرائيل في السفارات العربية، وليسوا هم من يقيمون العلاقات الدبلوماسية معها، لكنهم يجدون أنفسهم دائمًا في موضع الدفاع عن النفس أمام اتهامات جائرة. العهد الجديد في سوريا يبدو امتدادًا لسابقه في تعامله مع القضية الكردية، حيث تسعى تركيا إلى فرض وصايتها على مستقبل سوريا، وتحاول إقصاء الكرد من المعادلة السياسية، في وقت يتواطأ فيه بعضهم من السوريين: من داخل سوريا وخارجها، مع هذا المخطط. المنتظر الذي يسيل لأجله لعابهم، وتضج صفحات وسائل التواصل بتصريحات وتعليقات تهليلية من لدن هؤلاء” الوطنيين” أخوة الكرد!
وهنا لا بد من التذكير بموقف القائد التاريخي الراحل ملا مصطفى بارزاني “1903-1979″، الذي أوقف حربه ضد العراق خلال حرب” تشرين أكتوبر “1973”، رغم أن النظام السوري حينها أرسل فهد الشاعر لمحاربة الكرد في العراق، فانهزموا شر هزيمة. وقد حدثني أحد هؤلاء حين التقيته في ثمانينات القرن الماضي وقال:
لم أرَ أنبل من الكرد، لقد دحرونا وأسروا عددًا منا وكانوا في أوج الإنسانية في تعاملهم معنا، وأوصلونا الحدود السورية، مطلقين سراحنا!
كان هذا الموقف- من لدن البارزاني- دليلاً آخر على أن الكرد لم يكونوا في يوم من الأيام عامل انقسام في المنطقة، بل سعوا دائمًا للحفاظ على توازنها، رغم كل المظالم التي تعرضوا لها.
الشراكة الحقيقية تعني الالتزام المتبادل بالعدالة والحقوق، لا أن يكون طرف مطالبًا دائمًا بالتضحية دون أي مقابل. وحينما يُسأل الكردي عن موقفه من إسرائيل، عليه أن يطرح السؤال ذاته على الآخرين: لماذا يُطلب مني موقف معين بينما أنتم أنفسكم لا تلتزمون بالمبادئ التي تفرضونها علي؟
*أجرى الإعلامي محمد بيران مقابلة مع بشار الأسد في التلفزيون التركي في 1-4-2004قال فيه: إقامة دولة كردية خط أحمر. إليكم رابط ردي:
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=13425
رابط احتياطي:
https://www.kurdipedia.org/default.aspx?lng=1&q=20250207143022621547