منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف: عشرون عاماً من النضال الحقوقي.. تحية إلى كل من عمل بصدق وإخلاص في بناء هذه العمارة المدنية

إبراهيم اليوسف

لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ ذلك الحين، أصبحت المنظمة منبراً معروفاً له حضوره في إطار رصد التجاوزات والدفاع عن الكرامة الإنسانية، وسط تحديات جسيمة وضغوط متزايدة!

البدايات: انطلاقة في ظروف استثنائية

أجل. لقد تأسست -ماف في واحدة من أحلك الفترات التي عاشتها سوريا، حيث كانت انتفاضة آذار 2004 لحظة فاصلة كشفت عن الحاجة الملحة لتأسيس هيئة مدنية مستقلة تُعنى برصد الانتهاكات وتوثيقها. إذ انطلقت المنظمة من مدينة قامشلي، مرتكزة على قاعدة المبادئ الحقوقية العالمية، كي تستند بهذا في عملها إلى القانون الدولي لحقوق الإنسان. ومنذ نشأتها، وضعت “ماف” نصب أعينها مهمة نشر وعي وثقافة حقوق الانسان من جهة، ورصد الانتهاكات التي تطال الأفراد والمجتمعات من جهة أخرى، لا سيما في ظل انعدام العدالة وغياب المساءلة. وامتدت تقاريرها الدورية- وبلا أي انقطاع- لتشمل القضايا المحورية مثل انتهاكات حقوق الأقليات، الجرائم المرتكبة ضد المدنيين، وتوثيق سياسات القمع والتنكيل.

وللحقيقة، فإن  منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف  تعدُّ بجهود كل من ساهموا في بنائها، على نحو جاد. كل من وضع بصدق لمجرد لبنة واحدة في عمارتها، نموذجاً فريداً النضال الحقوقي، منذ ولادتها لتكون ابنة انتفاضة آذار بوجهها المدني، ولتصبح صوتاً للمظلومين ومظلَّة لرصد الانتهاكات الجسيمة التي طالت الأفراد والجماعات، كما أوضحت، خاصة في المناطق الكردية.

فقد برز دور- ماف في ظروف استثنائية وسط تضييق السلطات السورية على أي نشاط مدني مستقل، لتلتزم منذ يومها الأول، بمبادئ حقوق الإنسان العالمية، مُسلطة الضوء على قضايا مصيرية مثل القمع الممنهج، التمييز العرقي، والتغييرات الديموغرافية.

وإذا تحدثنا عن دور منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف فإنه لابد من تذكر منظمات شقيقة رديفة شريكة عملنا معا ألا وهي: داد- الراصد- روانكه…..، ضمن إطار المنظمات السورية السبع المدافعة عن حقوق الإنسان التي نعمل معاً منذ حوالي عقدين زمانيين، وعلى رأسها: لجان الدفاع عن الحريات  الديمقراطية وحقوق الإنسان في سورية” ل. د. ح” ومن ثم فيدرالية حقوق الإنسان التي ولدت بعد الحرب السورية، ستعيد النظر في عضويات بعض المنظمات بعد توقف أو تلكؤ عمل بعضها. فقد كانت في الوطن وخارجه منظمات عملت في الميدان الخيري والحقوقي بكل مهنية وحرفية، مخلصة لرسالة حقوق الإنسان، بعيداً عن الضجيج الذي خلفته المنظمات الوهمية أو ذات المرامي الذاتية.

وكانت مواجهة النظام السوري تحدياً وجودياً للمنظمة، بأدوات سلمية مدنية، ورغم هذا فقد تعرض أعضاؤها بسبب ذلك للاعتقال، ومُنع العديد منهم من السفر، وتعرض آخرون لتهديدات تطال حياتهم ولقمة عيشهم، بل هاجر أكثر من عضو مؤسس خارج البلاد، من دون أن تتوقف الملاحقات عند حدِّ التضييق الأمني، بل شملت محاربة الأعضاء في وظائفهم، ما جعل العمل الحقوقي مرادفاً للتضحية. فمنذ احتلال عفرين عام 2018 وسري كانيي وكري سبي، ركزت – ماف على توثيق الجرائم والانتهاكات، مع زميلاتها المنظمات الكردية والسورية العاملة، بما في ذلك التغيير الديموغرافي، سرقة المحاصيل، وقلع أشجار الزيتون. لتظهر وزميلاتها شجاعة فريدة في تسليط الضوء على هذه القضايا أمام الرأي العام الدولي.

الاستقلالية: سر المصداقية

إن حفاظ – ماف على استقلاليتها، ورفض الانخراط في ميادين السياسة، بعد انتشار دكاكين بعض الساسة والجهات الحزبية المتناقضة الذين سرعان ما انطلقوا مقدمين إعلانات عن ظهور قائمة أسماء منظمات تكاد لا تنتهي. منظمات الشخص الواحد أو العائلة. أو أعضاء الحزب أو أتباع هذا البهلوان وذاك، لأغراض تكسبية أو حزبوية، بهذا الشكل أو ذاك، كي تكتفي- ماف بأداء دورها المدني. ما أكسبها مصداقية عالية جعلتها شريكاً موثوقاً في العديد من التحالفات المحلية والإقليمية والدولية.

ومن هنا فقد أثبتت المنظمة جدارتها في مجال حقوق الإنسان من خلال شراكاتها مع هيئات عالمية، وتمثيلها للقضايا الحقوقية المتعلقة بسوريا ككل، وبالكرد السوريين في المحافل الدولية، لتتمكن من تقديم تقارير موثوقة ودقيقة ذات مصداقية ومهنية مع شريكاتها الرئيسة، عن الانتهاكات التي تعرَّضت لها المناطق الكردية وغيرها من المناطق السورية.

رسالة مستقلة: بين المبادئ والتحديات

اختارت “ماف” الاستقلالية منهجاً لا تحيد عنه، مبتعدة عن التسييس والانحياز لأي جهة، في الوقت سقطت فيه جهات عديدة في هذا الكمين الغاوي. هذه الاستقلالية أكسبتها مصداقية واحتراماً على المستويين المحلي والدولي. فلم تتورط المنظمة في أي نشاط سياسي ولم تشارك في التوقيع على  أية بيانات سياسية، متمسكة بإطارها المدني النقي، وهو ما جعلها هدفاً للتهديدات من النظام السوري وأطراف أخرى!؟

ونتيجة تسارع الأحداث الكارثية والتطورات المؤلمة وتعاظم جانب الاحتياجات والمتطلبات وتبلور الرؤى على الصعد الدولية والإقليمية والمحلية وتطور آفاق النضال المدني والسلمي، تأسست العديد من المنظمات العاملة بإخلاص ومهنية تامة في الساحة السورية، دون إغفال  واقع نشوء العديد من المنظمات السياسية والمدنية التي ركزت جل اهتمامها على جمع التمويل، من خلفية سياسية أو فردية منفعية، سواء داخل الوطن أو خارجه، بهدف استمرار أنشطتها أو تحقيق مكاسب خاصة. في هذا السياق، انخرطت بعض هذه المنظمات: المدنية والسياسية في تواصل مع جهات متناقضة، سواء كانت دولاً أو أطرافاً سياسية متباينة، من أجل الحصول على دعم مادي يضمن استمراريتها، ونعرف صولات وجولات بعضها. وعلى الرغم من أن بعضها نجح في تأمين التمويل، إلا أن منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف اختارت مساراً مغايراً تماماً، مُصرة على عدم الانخراط في معمعة الجانب الخيري أو التمويل الدولي والإقليمي. إذ رفضت المنظمة الاستعطاء من الجهات المعارضة، مثل المجلس الوطني السوري أو الائتلاف، كما لم تسع للحصول على الدعم من بعض دول الخليج التي كانت تلهث لإيجاد: دكاكين تابعة لها، ولا حتى الجهات الكردية والكردستانية. هذا النهج الصارم في الاستقلالية كان خياراً واعياً من- ماف، حيث أدركت أن الحفاظ على نقاء صوتها وضميرها يتطلب الابتعاد عن أية أجندات سياسية أو مصالح تمويلية قد تؤثر على مصداقيتها. بهذا الموقف المبدئي، لتثبت- ماف أنها ليست مجرد منظمة حقوقية، بل مثال على الالتزام الأخلاقي في ظروف بالغة التعقيد، ما جعلها تحتفظ بمكانة فريدة كصوت مستقل في وجه القمع والانتهاكات، من خلال أسرتها: راحلين وأحياء، وأذكر الراحلين هنا فحسب:  أكرم كنعو- الشيخ محمد معشوق خزنوي توفيق عبدالمجيد- الشيخ عبدالقادر خزنوي- صديقة عبدو ابنة عفرين، من دون أن ننسى الراحل محمد أمين محمد الذي تقدم بطلب انضمامه إلى لمنظمة وسعى لفتح مركز دراسات حقوقي في إقليم كردستان، إلا أن يد المنون سارعت في اختطافه، ولعل الوثائق لاتزال في بريده الإلكتروني، كما أكد لي نجله الإعلامي كاوا محمد أمين.

وإذا كانت المنظمة قد أدت دوراً كبيراً ، في إطار نشر ثقافة حقوق الانسان و توثيق الانتهاكات التي كانت تمارسها الأجهزة الأمنية، فإنها واصلت جهودها بعد دخول البلاد في دوامة الحرب عام 2011، كي تتضاعف المسؤوليات الملقاة على عاتقها، إذ واجهت ظروفاً أشد قسوة وتعقيداً.

ومؤكد أنه لم يكن طريق-ماف مفروشاً بالورود. فبين الاعتقالات التي طالت عدداً من أعضائها، ومنع آخرين من السفر، والتهديدات المباشرة من النظام السوري وأطراف أخرى، استمر أعضاء المنظمة في أداء مهماتهم بإخلاص وشجاعة

كما ولم تقتصر العقبات على المضايقات الأمنية فحسب، بل امتدت إلى انعدام الموارد المالية الكافية والتحديات اللوجستية، ما جعل عملها بمثابة جهد تطوعي من جنود مجهولين نذروا أنفسهم لخدمة القضايا الحقوقية.

وبمناسبة مرور عشرين عاماً على تأسيسها، لا يسعنا إلا أن نوجه تحية إجلال وتقدير إلى الزميلات والزملاء الذين عملوا بلا كلل من داخل الوطن وخارجه. كل باسمه. هؤلاء الذين تحملوا المخاطر وأدوا دورهم كجنود مجهولين في سبيل رفع صوت الحق وإبراز معاناة الضحايا، بلا هوادة، ولو بمجرد رصدنا باسم ضحية تعرض للانتهاكات!

إن مسيرة- ماف تعكس قوة الإرادة الإنسانية في مواجهة الظلم والقمع. ورغم الصعوبات، تبقى المنظمة شاهداً على حجم المآسي، وفي الوقت نفسه منارة أمل لأولئك الذين يبحثون عن العدالة. عشرون عاماً ليست نهاية الطريق، بل هي بداية جديدة لرسالة نبيلة لا تنتهي.

 

موقع المنظمة

 

https://www.hro-maf.org/

البريد الإلكتروني

Kurdmaf@gmail.com

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…

اننا في الفيدرالية السورية لحقوق الانسان والمنظمات والهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان في سورية، وبالمشاركة مع أطفال العالم وجميع المدافعين عن حقوق الطفل وحقوق المرأة وحقوق الانسان، نحيي احتفال العالم بالذكرى السنوية الثلاثين لاتفاقية حقوق الطفل، التي تؤكد على الحقوق الأساسية للطفل في كل مكان وزمان. وقد نالت هذه الاتفاقية التصديق عليها في معظم أنحاء العالم، بعد أن أقرتها الجمعية…