عدنان بدرالدين
بينما تتجه الأنظار اليوم نحو أنطاليا لمتابعة مجريات المنتدى الدبلوماسي السنوي الذي تنظمه تركيا، حيث يجتمع قادة دول ووزراء خارجية وخبراء وأكاديميون تحت شعار ” التمسك بالدبلوماسية في عالم منقسم”، يتبادر إلى الذهن تساؤل أساسي: ما الذي تسعى إليه أنقرة من تنظيم هذا اللقاء، وهي ذاتها طرف فاعل في العديد من التوترات الإقليمية والصراعات الجيوسياسية، خصوصًا في محيطها الجغرافي، بما يعاكس الرسائل التي يرفعها المنتدى.
فتركيا، التي تعاني من علاقات متوترة مع معظم جيرانها بدءًا من اليونان وقبرص، ومرورًا بأرمينيا والعراق، وصولًا إلى الخلافات المزمنة مع الاتحاد الأوروبي، تطرح نفسها في هذا المنتدى كوسيط دبلوماسي ومركز للحوار والسلام، في تناقض صارخ مع ممارساتها الفعلية. بل إن الملف السوري وحده يكشف عن أدوار تتجاوز الوساطة نحو التدخل النشط في إعادة تشكيل الخارطة السياسية للدول المجاورة. فمنذ سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر 2024، واستلام هيئة تحرير الشام للسلطة في دمشق بقيادة أحمد الشرع، برزت تركيا كلاعب رئيسي وفاعل أساسي في إعادة بناء السلطة في سوريا. الشرع اليوم، كما هو معلوم، هو الرئيس الانتقالي لسوريا، وتركيا حليفته الأولى ومظلتُه السياسية والأمنية في الداخل والخارج.
على الأرض، لم يعد لإيران وميليشياتها أي وجود يُذكر، بما في ذلك حزب الله الذي تراجعت قوته بعد اغتيال معظم قياداته في سلسلة غارات إسرائيلية قبل أشهر. ومع انهيار النظام السابق وفرار بشار الأسد وعائلته إلى موسكو، تراجع الوجود الروسي هو الآخر إلى مستويات دنيا، وانحسر معه نفوذ موسكو التقليدي في “بلاد الشام”، تاركًا الساحة الإقليمية لأنقرة لتملأ الفراغ السياسي، عبر أدوات مباشرة وغير مباشرة.
من هنا، يبدو أن منتدى أنطاليا ليس فقط مساحة لعرض آراء متباينة حول قضايا دولية، بل منصة تركية لإعادة صياغة موقعها الجيوسياسي كقوة محورية، ولإقناع العالم بأن من لا يمرّ عبر تركيا، لا يمرّ في السياسة الإقليمية. أنقرة تستخدم هذا الحدث لتلميع صورتها أمام المجتمع الدولي، في وقت تتصاعد فيه الانتقادات بشأن سجلها في حقوق الإنسان، وحرية الصحافة، وسلوكها العسكري الإستفزازي في كل من كردستان سوريا وكردستان العراق.
كما أن الحدث يمنح صانعي القرار الأتراك فرصة لإدارة مفاوضات خلفية بعيدة عن الأضواء، تشمل ملفات الغاز، واللاجئين، وصفقات إعادة الإعمار في سوريا، والتفاهمات مع القوى الإقليمية الناشئة وحتى المتصارعة. فالكثير من “الدبلوماسية الحقيقية” لا يتم على الطاولة الرسمية بل في الغرف الجانبية.
لكن السياق الداخلي لا يقل أهمية عن الأبعاد الخارجية. فمنتدى بهذا الحجم يعزز السردية التي تسعى السلطة التركية إلى ترسيخها لدى الرأي العام المحلي: تركيا قوية، ذات شأن دولي، تحتضن المؤتمرات، وتستضيف القادة، وتقرر مصائر الإقليم، لا العكس وهو سرد يعوّض، إلى حدّ ما، عن الأزمات الاقتصادية الداخلية والتململ السياسي الذي يتنامى تحت السطح، لا سيما بعد اعتقال رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو، أبرز منافسي الرئيس رجب طيب أردوغان، في خطوة وُصفت على نطاق واسع بأنها مسيسة وتهدف إلى تحييد المعارضة المدنية في البلاد. في هذا السياق، تصبح المنتديات الدبلوماسية واجهات ناعمة تُستخدم لصرف الانتباه عن تصدعات الداخل، وترويج صورة مغايرة عن استقرار سياسي مفقود في الواقع.
المنتدى إذًا، ليس أداة لتحقيق السلام كما يُروّج له، بل وسيلة سياسية محسوبة لتكريس موقع تركيا في قلب المعادلة الإقليمية الجديدة بعد سقوط نظام آل الأسد، وانسحاب طهران، وانكماش موسكو. وبينما يُصفق البعض للمنصة الدبلوماسية الناعمة، يقرأ آخرون ما يجري على أنه مشهد محسوب بعناية ضمن استراتيجية تركية توسعية تستبدل أدوات القوة الصلبة بخطابات دبلوماسية ناعمة، دون أن تغيّر من جوهر السياسات أو تحترم المبادئ التي تدّعي تمثيلها.
11 أبريل 2025