كوباني: هوية لا تُمحى وتاريخ لا يُزوّر – في مواجهة محاولات الطمس والتعريب

أزاد فتحي خليل

 

 

في ليلةٍ كان يُفترض أن تكون مساحةً للحوار الوطني الحر، وجدتُ نفسي أمام مشهدٍ صادم يُعيد إلى الأذهان إرث القمع البعثي وسياسات الإنكار القومي التي عانى منها شعبنا لعقود. كنتُ مع أحد الأصدقاء في نقاش افتراضي جمع نخبةً من السوريين، بينهم أكاديميون وحملة شهاداتٍ عليا، حيث كنا نتبادل وجهات النظر حول مستقبل سوريا وشكل الدولة الذي يمكن أن يحقق العدالة والمساواة بين مكوناتها.

 

وكما جرت العادة، بدأ كل شخص بتقديم نفسه والتعريف بمدينته. وعندما ذكرتُ أنني من كوباني، تفاجأت بسخريةٍ واضحة من أحد المشاركين الذي قلّل من أهمية الاسم، لتتدخل بعده إحدى المشاركات مؤكدةً أن “الاسم الصحيح” هو “عين العرب”، وأن “الجمهورية العربية السورية” هي التسمية الوحيدة المقبولة لسوريا. في تلك اللحظة، لم يكن بإمكاني الصمت، فقد شعرتُ أنني أمام مشهدٍ يتكرر منذ عقودٍ طويلة، حيث يحاول البعض فرض سرديةٍ أحادية تُقصي الآخر وتُصهر هويته القومية في بوتقة قوميةٍ واحدة.

 

الهويات الممسوحة قسرًا: إرث البعث الأسود

 

لم يكن هذا الجدال مجرد اختلافٍ في الرأي أو زلة لسان، بل كان امتدادًا واضحًا للسياسات البعثية التي سعت إلى طمس الهوية الكوردية وتهميش أي مكونٍ غير عربي في سوريا. فرض الأسماء المعربة على المدن الكوردية لم يكن عفويًا، بل كان جزءًا من مشروعٍ سياسي استهدف سلخ الكورد عن جذورهم الثقافية والتاريخية.

 

فكوباني ليست “عين العرب”، تمامًا كما أن القامشلي ليست “القامشلية”، وعفرين ليست “عفرين العرب”، وسوريا ليست ملكًا لقوميةٍ واحدة تُقصي باقي المكونات. هذه الأسماء لم تُطلق بشكلٍ بريء، بل كانت جزءًا من مخططٍ استعماري بعثي أراد مسح الهوية الكوردية وإحلال هوية جديدة فوقها، كما فعلت الأنظمة القومية المتطرفة في مناطق أخرى من العالم.

 

إنكار اسم كوباني ليس مجرد تغييرٍ لغوي، بل هو محاولة لطمس نضال وتضحيات شعبٍ قدّم 12,500 شهيد و25,000 جريح في سبيل حريته وكرامته. كوباني لم تكن مجرد مدينة، بل كانت رمزًا عالميًا للصمود، حيث واجه أبناؤها أعتى التنظيمات الإرهابية ورفضوا الخضوع لداعش، تمامًا كما رفضوا قبلها الخضوع لسياسات التعريب والقهر القومي.

 

سوريا للجميع أم للعرب فقط؟

 

هذه الحادثة تُعيد طرح سؤالٍ جوهري: هل سوريا وطنٌ لكل مكوناتها، أم أنها محصورة في هوية واحدة تُقصي الجميع؟ الإصرار على تسمية الدولة بـ “الجمهورية العربية السورية” يعكس رؤيةً استعلائية تُنكر وجود القوميات الأخرى، بل وتنكر حتى حقها في ذكر أسمائها وهوياتها. فهل تُبنى الأوطان بالقسر والفرض؟ أم تُبنى بالاعتراف والاحترام المتبادل؟

 

الوحدة الوطنية الحقيقية لا تقوم على الإلغاء، بل على الاعتراف. لا يمكن بناء سوريا جديدة إذا استمرت الذهنية الإقصائية التي لا ترى في البلاد إلا “عربية”، وتتجاهل المكونات الكوردية، الآشورية، السريانية، والأرمنية التي شكلت فسيفساء هذا الوطن منذ آلاف السنين.

 

كوباني ستبقى كوباني

 

ما جرى في هذه المساحة الحوارية ليس جديدًا، لكنه يعكس استمرار عقليةٍ مريضة لم تتعلم شيئًا من دروس التاريخ. كوباني ستبقى كوباني، شاء من شاء وأبى من أبى. لن يمحو اسمها لا تعريبٌ قسري، ولا قرارات بعثية، ولا أصواتٌ متعصبة تحاول فرض واقعٍ لا يعكس حقيقة التاريخ والجغرافيا.

 

إن معركة الهوية ليست مجرد جدلٍ لغوي، بل هي معركة وجود وكرامة. فكما رفضت كوباني أن تسقط في يد الإرهاب، ترفض أيضًا أن تُختزل في أسماء زائفة لا تمثلها. وكما صمد أبناؤها في وجه الطغيان، فإنهم سيظلون يدافعون عن حقهم في هويتهم، ولغتهم، وأرضهم، وتاريخهم.

 

سوريا المستقبل لن تكون عربيةً فقط، بل ستكون لكل من سكنها ودافع عنها. أما الذين يحلمون بإعادة عجلة الزمن إلى الوراء، فليعلموا أن كوباني لن تخضع، ولن تُمحى، ولن تبيع هويتها لأحد.

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…