كتاب «من أسقط التمثال؟- شهادات وحوارات في انتفاضة آذار الكردية 2004 » الحلقة السابعة والعشرون (أكرم عبدالله صادق*)

1 – كُنتُ في مدينتي ديريكا حمكو/ ديريك (المُعرَّبة إلى المالكية) أثناء وقوع الأحداث الدَّامية في شهر آذار (يوم الجمعة 12/ 3 /2004م)، لكنّني كبقية أهالي المدينة (وعامة منطقتنا) سمعتُ بأنّ مُشجّعي فريق الفتوة القادمين من دير الزور بسيّاراتهم، وأنّهُم حين دخلوا شوارع مدينة قامشلي بدؤوا بتوجيه العبارات البذيئة (سبّ وشتم) بحقّ رموز الشعب الكردي.. وبعدها في الملعب البلدي نُفِّذت مجزرةٌ شنيعةٌ بحقّ الكرد (مشجّعي نادي الجهاد) نجم عنها وقوع أربعة شهداء وأعدادٍ كثيرةٍ من الجرحى (جميعهم من كرد قامشلي) جرَّاء إطلاق النار (الرصاص الحيّ) عليهم من قبل رجال شرطة حفظ النظام وعناصر الأجهزة الأمنية التابعين للنظام البعثيّ السّوريّ.. تلك الأخبار أشعرتْنا بألمٍ شديدٍ وحزنٍ عميقٍ..

2 – في الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي (السبت 13/ 3/ 2004م)، كُنتُ موجوداً في مكتبي (للمحاماة في شارع الجلاء)، فجاءني عددٌ من المراجعين وأشخاصٌ آخرون.. وكُنّا (في المكتب) قاعدين في حالة انتظارٍ، نترقّب وصول معلوماتٍ جديدةٍ من قامشلي حول ما يجري من تحضيراتٍ لتشييع جثامين شهداء قامشلي.. خلالها سمعنا أصواتاً صاخبةً تتعالى يُرافقها صخبٌ وضجيجٌ مصدرها الشارع، فسألتُ القاعدين عمَّا يحدث في الشارع..؟، فقالوا: على ما يبدو إنّهُم كردنا الغاضبين قد خرجوا تضامناً مع كرد قامشلي.. فنهضنا جميعنا ونزلنا إلى الشارع نستطلع الأمر.. فتفاجئنا بتظاهرةٍ لابأس بها من حيث العدد (غالبيتهُم العظمى من الشباب دون العشرين عاماً) يسيرون باتجاه الغرب، ولاحظتُ الغضب قد عمَّ وجوه المُتظاهرين..

3 – تابعوا سيرهُم نحو الغرب.. فمرّوا من أمام معمل السّجَّاد إلى نهاية الشارع، ثمّ انعطفوا باتجاه الشمال (مسافة 100 متر)، حيث بناء مفرزة الأمن العسكريّ، وبوصولهم للمفرزة شاهدنا دخاناً أسوداً يتصاعد من الشارع خلف البنايات.. وأيضاً سمعنا أصوات إطلاق الرصاص.. وفيما بعد علمنا بأنّ الدخان كان نتيجة اشتعال النيران في دراجةٍ ناريةٍ مركونةٍ أمام مدخل مفرزة الأمن العسكريّ.. ومن هناك تابع المتظاهرون سيرهم شمالاً (مسافة 300 متر) حيثُ مفرزة أمن الدولة.. هناك سمعنا أصوات الرصاص تنبعث من المفرزة.. وبعدها رجع المتظاهرون عبر شارعٍ آخر.. وتوجّهوا إلى مفرزة الأمن السِّياسِيّ (مركز المدينة في السوق)، وهناك تمّ إطلاق الرصاص الحيّ على المتظاهرين.. وبعدها سمعتُ عن استشهاد شابّين من المتظاهرين وجرح العديد منهُم نتيجة تعرّضهم لإطلاق الرصاص الحيّ من قبل عناصر الأجهزة الأمنية..

4 – بينما أنا واقفٌ أمام باب مكتبي (في شارع الجلاء)، ألتفّ حولي (بشكلٍ عفويٍّ) بعض أهالي المدينة، يتساءلون عمَّا يجري..؟ وحينها وصلتنا معلومةٌ بوجود عددٍ من الجرحى يرقدون في مشفى المدينة، وهم في حاجةٍ لمتبرعين بالدم.. فقلتُ لهُم: لنذهب جميعاً إلى المشفى؛ كي نقدّم ما نستطيع من مساعدةٍ للجرحى.. وبوصولنا إلى مدخل المشفى (ونحن في الشارع)، رأينا دخاناً يتصاعد من مبنى المصرف الزراعي (المُلاصق للمشفى من جهة الغرب)، ثمّ شاهدنا قدوم مجموعةٍ شبابٍ من جهة المصرف الزراعيّ (وهُم بحالة غضبٍ هستيريٍّ شديدٍ)، ثمّ دخلوا مُسرعين إلى ساحة المشفى محاولين إحراق مبنى المشفى.. وهنا أسرعنا (أنا ومن معي والمتواجدين) إليهم، فشكّلنا حاجزاً بشرياً أمامهم لمنعهم.. وأفهمناهُم بأنّهُ لا يجوز إحراق المشفى وفيه أعدادٌ كبيرةٌ من المرضى والجرحى يحتاجون للمُعالجة.. والحقيقة أنّهُم تفهَّموا الوضع.. فخرجوا من ساحة المشفى متوجّهين شمالاً نحو بناء مؤسسة المياه والخدمات الفنية ودائرة الري.. وحين رأيناهُم يتسلّقون أسوار بناء مؤسسة المياه للنزول إلى باحتها.. أسرعنا بالتّوجّه إليهم (مرَّة ثانية) وأخبرناهُم بأنّ هذه المؤسسات وُجدت لخدمة أهالي المدينة.. وأنّ إحداث أيَّ حرقٍ أو تخريبٍ سيضرّ بمصالح عامة أهالي المدينة.. والحقيقة أنّهُم استجابوا لرغبتنا وانصرفوا، ثُمّ رجعنا (أنا ومن معي) إلى المشفى وتبرّعنا بالدماء للجرحى.

5 – وفي صباح اليوم التالي (الأحد14/ 3/ 2004م) كان أهالي مدينة ديريك (ديريكا حمكو) قد خرجوا لإعداد التحضيرات المناسبة لتشييع جنازات الشهداء (ضحايا رصاص الأجهزة الأمنية في مدينتنا)، وهما الشهيدان (وليد بدري شاهين 15 عاماً وحسين نوري 15 عاماً)، وقد انضمّ إليهم أهالي قرى ريف المنطقة.. والجميع شكلّوا موكباً عظيماً من المُشيعين (كُنت أنا بينهُم) يسيرون خلف الجنازات باتجاه مقبرة المدينة (في حي خيركان الملاصق لطريق عين ديوار شرقاً)، حينها سمعنا عن قيام كرد سوريا بانتفاضةٍ عارمةٍ بدأت في قامشلي، ثمّ عامودا وكافة مدن محافظة الحسكة.. وتعاظمت لتشمل أماكن تواجد الكرد كافّةً (عفرين وحيي الشيخ مقصود والأشرفية وجامعة حلب).. حتى إلى العاصمة دمشق (حيي ركن الدين وزورآفا) وكذلك في جامعة دمشق..

6 – وبعد الانتهاء من دفن الشهيدين في المقبرة (في حيّ خيركان) غادرها المشيّعون (المتظاهرون)، وفي الطريق خلال رجوعنا أخبرني بعض الأشخاص بأنّ مجموعةً من المتظاهرين تسعى إلى اقتحام وحرق مباني دائرة الري وغيرها من مباني الدوائر في (حيّ شمال المشفى الوطني القديم)، وعلى الفور توجّهنا إلى تلك المجموعة (وكانت من الشباب اليافعين)؛ فتحدثنا معهم.. وطالبناهم بعدم جواز التّعدّي على مباني الدوائر وتخريبها، لكونها موجودة لخدمة عامة المواطنين، وفعلاً استجابوا لرغبتنا.. وخلال تجوالنا في شوارع المدينة رأينا عدداً من الأبنية والأماكن التي تعرّضت للحرق وإتلاف محتوياتها (أثاث وأوراق)، ومنها: مبنى شعبة حزب البعث، مبنى البلدية، مبنى المصرف الزراعي، مبنى المركز الثقافي، وشاهدنا (تمثال الرئيس حافظ الأسد القائم في ساحة الرئيس بمركز السوق) قد تمّ تحطيمه.

7 – بعد تظاهرات أهالي المدينة يوم السبت (13/ 3/ 2004م) ولمدَّة أسبوع، لم نشاهد سلطات الدولة (الشرطة وعناصر المفارز الأمنية)، بل كانت غائبةً ومختفيةً تماماً.. وبعد تلك المدة بدأت تظهر بالتدرّج دوريات الشرطة التي كانت تتجوّل بسياراتها العسكرية شوارع المدينة بحذرٍ شديدٍ.. ثم تلا ذلك قيام دوريات الفروع الأمنية والشرطة بحملة اعتقالاتٍ واسعةٍ، خلالها تمّ القبض على الكثير من الكرد.. منهُم: صلاح الدين أيوب، إسماعيل بيرة و ابنه أحمد، أحمد مسطو (أبو شبال)، الدكتور أنس عبدالكريم (صيدلانيّ)، دارا أحمد، رمضان رشيد، السيدة شيرين محمد بكجي، أحمد علي بكجي، رضوان خوخة، توفيق رمي، نافع عبد الله ملا مجيد، أحمد ساره (أبو مزكين)، صلاح تاج الدين، ميجر عكيد آغا، حجي عبد القادر سليمان، جهاد مصطفى، كندال..(لا أعرف كنيته)، محمد سعدون (تمّ ترحيله إلى سجن صيدنايا في دمشق)، عمر إسماعيل (تمّ ترحيله إلى سجن صيدنايا في دمشق)، علي شير(تمّ ترحيله إلى سجن صيدنايا في دمشق)، وآخرون لا أتذكّر أسماءهم.. أمّا بالنسبة للشهداء الذين سقطوا برصاص الشرطة والفروع الأمنية، فهم شابان (الشهيدان: وليد بدري شاهين وحسين نوري) وهما من أهالي المدينة.. أمَّا الجرحى فلم يُعرف عددهم (بشكلٍ دقيقٍ)؛ لأنّ ذويهم (حينها) فضّلوا الكتمان، وقاموا بعلاجهم خارج المشفى (على نفقتهم الخاصَّة)، وذلك تخوّفاً من قيام الأجهزة الأمنية بإلقاء القبض عليهم..

8 – أمّا بشأن المُعتقلين.. فبعد حملة الاعتقالات بأيامٍ.. جاء إلى مكتبي عددٌ من مسؤولي الأحزاب الكردية.. أتذكّر منهُم المهندس عبداللطيف علي سليمان (المعروف بلقبه أبو هيمن) ومحمد علي إبراهيم (المعروف بلقبه أبو نادو)، وقد أوضحوا سبب حضورهم إلى مكتبي، ثمّ قالوا (لي): بأنّه ستتمّ إحالة بعض المعتقلين غداً إلى محكمة ديريك، وحينها طلبوا منّي بأن أتوكّل بالدفاع عنهم (إنْ كان لي رغبةٌ في ذلك)..؟، ومباشرةً (ومن دون تردّدٍ) وافقتُ على طلبهم (وقد أبديتُ لهُم بأنّني سأتولى موضوع المرافعات طوعاً/ من دون مُقابلٍ)، وفي اليوم التالي حيثُ كُنتُ على وشك الخروج من مكتبي لأتوجّه إلى المحكمة.. جاءتني عدَّة اتصالاتٍ من بعض المسؤولين الحزبين ومن المحكمة، مفادها: أنّ المحكمة من تلقاء نفسها تركتهم (من دون محاكمةٍ) وأخلتْ سبيلهم، وقد تمّ حدوث ذلك قبل أنْ أقوم بأيّ شيءٍ.

 

*محام وناشط سياسي

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

بوتان زيباري   يا سوريا، يا رعشة التاريخ حين يختلج على شَفَة المصير، ويا لُغزَ الهوية حين تُذبح على مذبح الشرعية، ما بين سراديب القهر وأعمدة الطموح المتداعية. أنتي ليستِ وطناً فقط، بل أسطورةٌ تمشي على أطرافِ الجراح، تهمس للحاضر بلغةٍ من دمٍ، وتُنادي المستقبل بنداءٍ مختنقٍ بين الركام. أيُّ قدرٍ هذا الذي يجعل من أرض العقيق محرابًا للدم، ومن…

نتابع، في الشبكة الكردية لحقوق الإنسان والمنظمات الحقوقية الكردية في سوريا، بقلق بالغ تصاعد حالات اختطاف الأطفال القُصَّر، خاصة الفتيات، من قبل ما تُسمى بـ”منظمة جوانين شورشكر” أو “الشبيبة الثورية”. حيث يُنتزع هؤلاء الأطفال من أحضان عائلاتهم ويُخفَون في أماكن مجهولة، دون تقديم أية معلومات لأسرهم عن مصيرهم. لقد حصلنا على قوائم بأسماء عدد من القاصرين والقاصرات الذين تم اختطافهم…

إبراهيم اليوسف   مرت مئة يوم منذ سقوط النظام، وشهدت البلاد تحولًا سريعًا- يشبه ما يحدث في الخيال العلمي- وكأنها عاشتها على مدى قرن بل قرون. هذه الفترة القصيرة كانت مليئة بالأحداث الجسيمة التي بدت وكأنها تحولات تاريخية، رغم قصر الوقت. ومع كل هذه التغيرات، تبقى الحقيقة المرة أن السوريين يواجهون تحديات أكبر من أي وقت مضى. بدأت المرحلة الجديدة…

نظام مير محمدي*   في خطبته التي ألقاها الولي الفقيه علي خامنئي بمناسبة عيد الفطر قال وهو يشير الى التهديدات المحدقة بالنظام الإيراني: “يهددوننا بالشر. لسنا على يقين بأن الشر سيأتي من الخارج، ولكن إن حصل، فسيتلقون ضربة قاسية. وإذا سعوا لإشعال الفتنة في الداخل، فإن الشعب الإيراني سيتولى الرد”، وفي کلامه هذا الکثير من الضبابية وعدم الوضوح لأن…