كتاب «من أسقط التمثال؟- شهادات وحوارات في انتفاضة آذار الكردية 2004 » الحلقة السادسة عشرة (سلام داري*)

رحلة العذاب

 الأحداث المؤسفة التي وقعت يوم الجمعة 12/3/2004م في الملعب البلدي في قامشلي تلاها يوم السبت مظاهراتٌ عارمةٌ خرج فيها الكرد إلى الشارع، فقابلهم الأمن بالعنف المفرط واستخدم السلاح ضدّ المتظاهرين، وسقط على إثرها العديد من المتظاهرين بين قتلى وجرحى.

في يوم الأحد 14/ 3/ 2004م، ذهبتُ إلى محلّي الكائن وسط المدينة، جلسنا كعادتنا نحتسي الشاي وكان بين الحضور جاري الدكتور نبيل حداد، الذي بدأ الحديث بمهاجمة الكرد وأنّ الكرد هم السبب في تلك الأحداث؛ فبدأتُ بالدفاع عن الكرد وأنّ جمهور دير الزور استفزّوا جمهور نادي الجهاد وذلك بشتم رموز الكرد ورمي الحجارة وإثارة الشغب في الملعب والدليل سقوط العديد من جمهور الجهاد جرحى.

بعد هذا الحديث بحوالي عشر دقائق توقّفت سيارتان للأمن العسكريّ، الكلّ فيها كانوا مسلحين بالبنادق وأخذوني إلى فرع الأمن العسكري في قامشلي، وحين وصلنا إلى باب الزنزانة التي كانت تحت الأرض قليلاً دفعوني من أعلى الدرج؛ فسقطتُ.. حينها علمتُ أنّ رحلة العذاب قد بدأت.

كنتُ وحدي في الزنزانة، لكنْ بدؤوا في جلب الناس حتى اكتظّت الزنزانة بالمعتقلين، زنزانةٌ طولها حوالي 3م، وعرضها حوالي 2,5م أصبح فيها أكثر من 50 شخصاً، وكنتُ من المحظوظين بينهم؛ لأنّني أسند ظهري إلى الحائط، أما البقية كانوا في الوسط لا يستطيعون أنْ يسندوا ظهورهم إلى شيءٍ.

كان العرق بتصبّب منا بغزارةٍ، عرقنا كان يختلط ببعضه حتى أنّ أرضية المهجع مبللةٌ دائماً بالعرق، وفي أحد الأيام فتح أحد المحققين الشباك الصغير الموجود على باب المهجع، فاشتمّ رائحة العرق، وقال: (يخرب بيتكم على هذه الرائحة لم نكن نشم تلك الرائحة)، كنّا ننام جلوساً؛ لأنّ مساحة المهجع لا تتسع لنا للتمدد عند النوم، كانت ثلاثة رؤوسٍ أو أربعة على رجلي، كنتُ أستيقظ من النوم؛ لأنّ رجلي كانت تنخدر من ثقل الرؤوس؛ فأرفع رؤوس زملائي عن ساقيّ، وكان الطعام وجبتين: وجبة عند الظهر ووجبة في المساء وكانت عبارة عن رغيف خبزٍ واحدٍ وقطعتين من الفلافل لم نكن نستطيع مضغها إلا بمساعدة الماء، وكان يوجد إبريقٌ واحدٌ هو إبريق (التواليت)، كنا نصرخ على بعضنا لجلب الماء عند الأكل.

في المساء يبدأ التحقيق عادةً والتحقيق هو تعذيب المعتقلين؛ لإجبارهم على الاعتراف برمي الحجارة أو حرق مؤسسات الدولة، وكانوا يضعون المعتقلين في دولاب وينهال الجلادون عليه بالضرب أو يستخدمون الكهرباء لنزع الاعترافات، كانت الزنزانة قريبةً جداً من ساحة التحقيق، وكنا نسمع عويل وصراخ وآهات زملائنا تحت التعذيب وهذا بحدٍّ ذاته عذابٌ لا يضاهيه عذاب، وبذلك زرعوا الخوف في نفوسنا قبل أنْ نذهب إلى ساحة التعذيب.

حينما أخذوني إلى التحقيق كنتُ معصوب العينين بقطعة قماشٍ.. وضعوني في الدولاب وانهالوا عليّ ضرباً، رأيتُ الجلاد من تحت قطعة القماش التي على عيني، كان مفتول العضلات وكأنّه رياضيٌّ محترفٌ، وعندما أصابهم اليأس لعدم اعترافي؛ بدؤوا بتعذيبي بصعقة الكهرباء، عند الصعقة كان يخرج من فم المعتقل صراخٌ مستمرٌّ من دون توقفٍ حتى تقف الصعقة؛ كنا نعرف ذلك من الذين استخدموا معهم الصعقة الكهربائية، زد على ذلك كان هناك الكرسي الألماني أيضاً.

كان من بين المعتقلين العديد من الأطفال تحت 18 سنة، وأحدهم كان طفلاً عمره 12 سنة، كان كل صباحٍ يبدأ بالبكاء وينادي على أمّه: (أمّاه.. لماذا لا تأتين وتأخذينني معكِ إلى البيت.. لقد اشتقتُ كثيراً لباب بيتنا)، وجود هؤلاء الأحداث الصغار كان يزعجنا كثيراً؛ لأنّ بكاءهم اليومي كان يؤثّر على معنوياتنا ويصيبنا بالإحباط.

على هذه الحالة قضينا أحد عشر يوماً في فرع الأمن العسكريّ، بعدها أغمضوا أعيننا وقيّدوا أيدينا إلى الخلف، وركبنا سيارات الزيل العسكرية، ونقلونا إلى السجن المركزيّ في الحسكة، وعند وصولنا إلى سجن الحسكة، استقبلنا عناصر الأمن والشرطة خير استقبال فبدؤوا يضربوننا عشوائياً بالأيدي وبالأرجل وبالسياط.. كان الضرب يأتينا من كلّ الاتجاهات وعلى كافة أنحاء الجسم..

كان المهجع في سجن الحسكة المركزيّ طويلاً جداً ويتسع للكثيرين، كان عددنا (110)، أعطونا بطانيةً واحدةً لكلٍّ منّا، كنا نضع قطعةً منها تحت ظهرنا وقطعة فوقنا من دون مخدةٍ طبعاً.

كانوا يطلبون منّا الاجتماع كلّ صباحٍ، ويبدأ الشتم والضرب والتوبيخ وأعيننا مغمضةٌ، كانوا بارعين في ضرب (الكفوف)، وكان الضرب بالكفّ على وجه شابٍّ في مقتبل العمر كافياً لإسقاطه على الأرض.

يا الله..! بأيّة طريقةٍ يضرب هؤلاء الناس حتى يستطيعوا إسقاط شابٍّ على الأرض بضربةٍ واحدةٍ..!. كانوا يقولون لنا أنتم خونةٌ، ويبدؤون بشتم آبائنا وأمّهاتنا وزوجاتنا، كان التعذيب النفسي أقسى علينا من التعذيب الجسديّ؛ لأن التعذيب الجسدي بمرور الزمن يصبح جزءاً من الماضي ويُنسى أمّا النفسيّ فلا.

الآن وبعد مرور حوالي 18 عاماً مازلتُ أتذكّر بعض الشتائم النابية التي وُجِّهتْ إليّ أو إلى زملائي، ولا أستطيع النوم بمجرّد تذكّرها.

 

*كاتب ومعلم من معتقلي الانتفاضة

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي في السنوات الأخيرة، بات من الصعب تجاهل التحوّل المتسارع في نبرة الخطاب العام حول العالم . فالعنصرية والكراهية والتحريض عليهما لم تعودا مجرّد ظواهر هامشية تتسلل من أطراف المجتمع، بل بدأت تتحول، في أكثر الدول ديمقراطية ولم يعد ينحصر في دول الشرق الأوسط ( سوريا . لبنان – العراق – تركيا – ايران وو .. نموذجاً ) وحدها…

ياسر بادلي ليس اختيارُ الرئيس العراقيّ السابق، برهم صالح، مفوّضاً سامياً لشؤون اللاجئين حدثاً عابراً يمرّ على أطراف الأخبار؛ بل هو لحظةٌ ينهضُ فيها تاريخُ شعبٍ كامل ليشهد أن الأمم التي صُنعت من الألم تستطيع أن تكتب للإنسانيّة فصلاً جديداً من الرجاء. فالمسألة ليست منصباً جديداً فحسب… إنه اعترافٌ عالميّ بأنّ الكورد، الذين حملوا قروناً من الاضطهاد والتهجير، ما زالوا…

المحامي عبدالرحمن محمد   تتواصل فصول المسرحية التركية وسياساتها القذرة في الانكار والنفي للوجود التاريخي للشعب الكوردي على ارضه كوردستان، ومحاولاتها المستمرة لالغاء ومحو كلمتي كورد وكوردستان بوصفهما عنوانا للهوية القومية الكوردية والوطنية الكوردستانية من القاموس السياسي والحقوقي والجغرافي الدولي، سواء على جغرافيا كوردستان او على مستوى العالم. تارة يتم ذلك بحجة وذريعة الدين (الاسلام)، وتارة اخرى باسم الاندماج والاخوة،…

  إبراهيم اليوسف وصلتني صباح اليوم رسالة من شاعرة سورية قالت فيها إنها طالما رأتني وطنياً لكنها تجدني أخرج عن ذلك، أحياناً. رددت عليها: صديقتي، وما الذي بدر مني بما يجعلك ترين وطنيتي منقوصة؟ قالت: أنت من أوائل الناس الذين وقفوا ضد ظلم نظام البعث والأسد. قلت لها: ألا ترينني الآن أقف أيضاً ضد ظلم السلطة المفروضة- إقليمياً ودولياً لا…