كتاب «من أسقط التمثال؟- شهادات وحوارات في انتفاضة آذار الكردية 2004 » الحلقة الخامسة عشرة (سليمان إسماعيل*) – (2\2)

7)- كم كان عدد المعتقلين من الدرباسية؟ وأيّ الفروع الأمنية قام باعتقالكم؟

– الإجابة: كان العدد كبيراً في البداية، حيث تمت الاعتقالات بموجب ذكر اسم الشخص بموجب وشاية كاذبةٍ أو من قبل المعتقلين، كانت تأتي دوريةٌ من الحسكة ويتم الاعتقال، ومن قبل أمن الدولة والأمن السياسي والأمن العسكري، كلّ المفارز كان لها حصةٌ في الاعتقالات، ولكن كانوا يعتقلون الأشخاص ويحققون معهم، وحصلت تدخلات من قبل بعض المتنفذين (واسطات) استفادوا كثيراً من الإفراج عن الأشخاص من الفروع الأمنية، بدفع مبالغ مالية مقابل الإفراج عنهم، بعض عناصر المفارز استغلوا الفرصة وكانوا يأتون لبيت أحد أقرباء بعض الأشخاص ويخبرونهم بأنّ اسمه موجودٌ ويستطيعون أنْ يشطبوه مقابل مبلغٍ من المال، فكانت الناس تشتري أولادها.

كان عدد المعتقلين من الدرباسية كبيراً، وتم ترك الكثير منهم في الفروع الأمنية، ولكنْ في سجن صيدنايا كان أكثر من ثلاثين شخصاً، لكنْ عندما تمّت إحالتنا إلى المحاكم كان عدد البالغين واحداً وعشرين شخصأ وعدد القاصرين خمسة أطفالٍ.

8)- أين تمت التحقيقات معكم؟

– الإجابة: التحقيقات كانت في عدة أماكن ومن قبل عدة فروعٍ وأشخاصٍ لم نعلم من هم.. في البداية كان من قبل محققين (جلادين) في السجن المركزي بالحسكة، وبعدها قسم أمن الدولة، ومن ثم سجن صيدنايا العسكري، هذا بالنسبة لي.. أمّا فيما يخص بعض المعتقلين فقد تم التحقيق معهم في فرع الأمن الجوي والأمن السياسي وكثير من الأماكن مروا بها.

9)- كيف كانت المعاملة معك تحديداً..؟ هل تم تمييزك- تعاطفاً كان أم انتقاماً-؟

– الإجابة: نعم كان التعامل معي مميّزاً، شددوا علينا نحن أصحاب الشهادات كثيراً، وعذبونا أمام المعتقلين في محاولةٍ منهم لتخويف الشباب الآخرين، ولكنْ لم ينجُ أحدٌ من العقوبات النفسية (المعنوية) والجسدية (المادية).

استخدموا معي عقوبة الكرسي وعقوبة الدولاب والضرب العشوائي وتحريض بعض العناصر لضربي أمام المساجين.. وكذلك المنفردات والشتائم التي تقشعر لها الأبدان، ناهيك عن تعذيبنا بتعذيب الأشخاص الأكبر والأصغر منا سنّاً، حيث كانوا يعذبونهم أمامنا.

في سجن صيدنايا وفي كل صباح كان يأتي عسكريٌّ برتبة رقيب من الشرطة العسكرية ويقوم بصفعي أمام الجميع ويقول كلمته المشهورة: (أنا أتلذذ بضرب المحامين)، وينهي مهمته بضربي على وجهي كل صباح، كان من مدينة درعا اسمه ماهر، كان أصغر مني سنّاً وأحد أسنانه الأمامية (القواطع) مكسورٌ.

10)- كم كان العدد الإجمالي للمعتقلين؟

– الإجابة: العدد الإجمالي في الفروع الأمنية كان كبيراً جداً، حيث في بعض المناطق تم الاعتقال على الهوية فقط؛ لأنك كردي يتم اعتقالك، في الحقيقة لم يتم إحصاء الذين تم التحقيق معهم في فروع المخابرات وأطلق سراحهم هناك، كان الكثير من الأشخاص الذين تم اعتقالها وتُركوا من قبل معتقليهم لا يريدون أنْ تذكر أسماؤهم؛ خوفاً من الاعتقال مرة أخرى، وكذلك تم الافراج عن عددٍ كبيرٍ بعد وصولهم إلى سجن صيدنايا، حيث كانت هناك لجنةٌ أمنيةٌ تحقق مع المعتقلين هناك، وأُفرج عنهم قبل إحالتهم للمحاكم، أمّا بالنسبة للمعتقلين الذين تمّت إحالتهم للمحاكم حسب علمي في دمشق أمام القضاء العسكري كان العدد 256 شخصاً، وتم الإفراج عن 53 شخصاً بموجب عفوٍ عامٍّ في الشهر السابع، وبقي معي 203 أشخاص في سجن عدرا المركزي، وهناك 15 شخصاً حكموا أمام محكمة أمن الدولة، وكذلك الأحداث جميعهم تم نقلهم إلى محافظاتهم وكان عددهم حوالي 50 طفلاً حدثاً، عدا أنّه كان هنا وهناك أشخاصٌ لم يتم تحويلهم للمحاكم وظلّوا في الفروع الأمنية.

11)- كيف كانت المعاملة العامة؟

– الإجابة: كانت المعاملة قاسيةً جداً، واستخدمت كافة وسائل التعذيب ووصل الأمر حدّ الموت تحت التعذيب، وإحداث إعاقات جسدية، حيث كان الجلادون يتسابقون ويتنافسون في التعذيب؛ ليبرهنوا لضباطهم وأصدقائهم مدى حبهم لقائدهم الذي تحطّم تمثاله بيد هؤلاء المعتقلين، وخاصةً العناصر من غير الطائفة العلوية، ناهيك عن العقوبات النفسية التي أبدعوا فيها.

12)- كيف تم نقلكم إلى دمشق؟ وكيف كانت المعاملة أثناء ترحيلكم إلى دمشق؟ وبأيّة وسيلة مواصلاتٍ تم نقلكم؟

– الإجابة: إنّها رحلة الموت، السفر إلى المجهول، لا نعرف إلى أين، أو بأيّ وسيلة نقلٍ، ومع من، ومتى نصل أو لا نصل أصلاً.. إنّه يوم السابع من نيسان عيد ميلاد حزب البعث المعروف على مستوى العالم بعنصريته وبطشه منذ الولادة وحتى اليوم.. إنّه الحزب الذي قام بتصفية كلّ أعضائه المعارضين للرئيس حافظ الأسد، كيف وقد تم تحطيم تمثال قائده على يد هؤلاء، من الطبيعي أنْ لا نعرف أين وكيف ومتى ومع من وإلى أين وماذا ولماذا.. كلها أسئلةٌ لا إجابة عليها.

في حوالي الساعة الثالثة من بعد الظهر، دخل عنصران إلى زنزانتي الانفرادية في قسم أمن الدولة في الحسكة في حي القضاة، وحملوني ووضعوا القيد والطماشة وركلوني وبسرعةٍ وضعوني في سيارة (ستيشن) عفنية اللون، لاحظتها من خلال أسفل الطماشة، ومن سرعة حركاتهم وضعوني في المقاعد الخلفية، كانوا مسلحين قعدوا على يميني ويساري، والسائق بدأ بالشتائم، وانطلق بسرعةٍ جنونيةٍ باتجاه طريق دير الزور، في تلك اللحظة دارت بي الدنيا إلى الوراء.. ماذا سيفعلون بي..! لا أستطيع أنْ أصرخ.. الشبابيك مغلقة، وهم مسلحون.. هل سيرمون بي في البراري أم سيقومون بدفني في الصحراء.. مخيلتي غنيةٌ بما سمعته عن جرائم الأنظمة الغاصبة لكردستان، جرائم الأنفال، حلبجة، ديرسم اكري..، كلها جرائم كان الاختفاء القسري حاضراً فيها، ولكنْ بعد جسر غويران اتجه السائق إلى اليمين، عرفتُ أنّه اتجه إلى السجن المركزي، تنفست وارتاح بالي وكأنّي وُلدت من جديدٍ، دخلنا ساحة السجن، وسلموني لعناصر أمن السجن، وفكوا قيدي وإذا بأحدهم يصفعني ويقول: (أولاد القحبة هلا راح تشوفوا حالكم بفرع فلسطين)، ولم يقيدني وكانت يداي مشدودتين على قميصي الذي لم يتروكوا لي فرصةً لألبسه، سمعت صوت مدير السجن ينادي العدد في السيارة الأولى 28 وفي الثانية 58 المجموع 86، وكانوا قد وضعوا درجاً للصعود لسيارات الزيل العسكرية المغلقة ذات الشبابيك الحديدية، لم أعرف من معي بالسيارة، كنت أسمع صوت صراخ أحد الشباب وكلّ مرةٍ يغمى عليه، ويحاول رفاقه أنْ يقظوه، حيث كان يعاني من نوبات صرع، كنا أربعة صفوفٍ جالسين على مقاعد خشبيةٍ وأرجلنا متشابكةٌ مع رجل الشخص المقابل لنا، الكلّ مطمش العينين ومقيدون إلا أنا؛ لأنّ عناصر قسم أمن الدولة سلموني وفكوا قيدي، ونسي عناصر السجن أنْ يقيدوني، وأنا من الرعب والخوف من المجهول كنت أمسك يدي بالأخرى وكأنّني مقيدٌ والقميص يغطي معصمي، انطلقت سيارتا الزيل بمرافقة سيارة جيب عسكرية حمراء اللون وسيارتا ستيشن بلونٍ أسود باتجاه طريق دير الزور جنوباً، وكان يقعد في المقاعد الخلفية عنصران، يفصل بيننا شبكٌ ويجوز لهما فتح باب الشبك والدخول بيننا، كانت الشتائم على لسانهما من دون توقفٍ، اقتربت السيارة من مدينة ديرالزور، كنا نتوقع.. وبعض المرات كنتُ أرفع طماشتي قليلاً عندما أتوقع أنّ العسكريين مشغولان بالتدخين، خفنا ونحن في القيد أنْ يهجم علينا أهل ديرالزور، ولا سيّما عندما توقفت السيارة في كازية في وسط المدينة، وجاء أحدهم بـ (بيدون) من الماء وقال: (في محامي يمكن يكون عطشان)، فقام برشه من الأعلى مستهزئاً، وتابع: (المحامي يحتاج لشلمونة، جيبوا للمحامي شلمون) وقام بتفريغ كلّ الماء من دون أنْ يسمح لأحد بأنْ يشرب، انطلقت السيارات باتجاه تدمر، تخوّفنا وأصبحنا نسأل: هل سوف يدفنوننا في الصحراء في مقابر جماعية ونحن أحياء، أم إلى سجن تدمر سيئ الصيت، كل الاحتمالات ممكنة، شبابيك السيارة قضبان فولاذية وصفير الهواء وجعير الزيل والليل الداكن وحالة الخوف ووجع القيود البلاستيكية والعطش والجوع كلها جاءت مع بعضها، صرخ أحد المقيدين: يا شباب سوف تنقطع يدي من القيد يا شرطة يا شرطة شوفوا حل، بدأ العنصران بفتح أسطوانة المسبات التي تليق به: (اقعد يا ابن… اجي أدوسك، خليها تنقطع تستاهل، أصلاً نحن هيك بدنا)، المقيد يجلس خلفي ويبكي، فقلت: يداي غير مقيدة، ولكنْ كيف أساعدك؟ وقلتُ: أنا المحامي سليمان من الدرباسية.. هل من أحدٍ يعرفني؟ قال الكثير منهم: نعم نعرفك، قلتُ: أنا لم يقيدوني ووضعوني في السيارة، هل هناك طريقةٌ لفكّ القيد، نادى شخصٌ اسمه جمال من قرية جريبا التابعة لناحية الدرباسية: أستاذ في جيبي حازمة الورق، وهي عبارةٌ عن تيل بشكل حلزون إذا فتحته يمكنك أنْ تضعه على مسننات القيد وسوف يتخلخل..، أدخلت يدي في جيبه وأخرجتُ تلك الآلة التي لا يوجد سواها في جيب جمال، فتحتها وحاولت فتح القيد، ولكنْ لم تساعدني أصابعي بالضغط، حيث كانت نصف مشلولة نتيجة عقوبة الكرسي الألماني الذي عذبوني به، وبعد عدة محاولات نجحت وخفّ الوجع والألم، وكان الطفل المقيد والذي تم التخفيف عنه لم يتجاوز الثالثة عشرة، ناداني وبصوتٍ منخفضٍ قال: لن أنسى لك هذا الموقف، الكثير منهم تبوّل بثيابه، حيث لم يتوقفوا رغم المطالبة المتكررة من قبل الموقوفين بالوقف لقضاء حاجة، ولكنّهم لم يسمعوا؟.

هكذا انتهينا من تدمر.. وأنا أحاول أنْ أخفف عن جمال صاحب الآلة في تلك الصحراء الواسعة التي لا يملك المارّون بها حريتهم، حاولتُ معه ولكنّ الآلة سقطت بين الأرجل، أين نبحث؟ لا جدوى من البحث، أصلاً لا نستطيع الحركة، فقال جمال: أستاذ هناك واحدةٌ أخرى، وفعلاً بحثتُ عنها ووجدتُها في قعر جيبه الفارغ.. بدأت عملي في التخفيف عن جمال وكذلك عبدالخالق (أبو محمد)، حيث كانت يد الأخير قد تورّمت وبقيت آثار القيد على معصميه حتى اليوم، وهكذا حتى دخلنا مدينة عدرا التي يوجد فيها سجن عدرا المركزي، توقّعتُ أنّهم سوف يودعوننا في هذا السجن الكبير، حيث كان العدد كبيراً والاعتقالات مستمرةً، لكنّنا مررنا بتلك المدينة الهادئة ولم يشعر بنا أحدٌ وكان الليل في آخره والسكون يعمّ في كلّ مكانٍ، فقط صوت عجلات السيارات وصراخ السجانين وأنين المقيدين وصفير الهواء عبر نوافذ الزيل العسكريّة وكأنّها سهامٌ تخترق أجسادنا، الأفكار المرعبة مازالت تراودني، إلى أين نحن مسيّرين؟.

هل إلى فرع فلسطين السيئ الصيت..! وأنا أفكر بما رواه لنا كثيرٌ ممّن دخلوا إلى هذا الفرع المعروف بأنّ من يدخله ويخرج منه كأنّه ولد من جديدٍ، وإذْ بالسيارة تنحرف نحو ضاحية الأسد إلى اليسار من الطريق، هنا تأكّدت بأنّ فرع فلسطين ليس من هنا، واتجهت السيارات إلى مدينة التل شمالي دمشق، وكنتُ أعرف تلك المنطقة الشمالية من ريف دمشق، وعبرنا مدينة التل واتجهنا إلى مدينة صيدنايا، عندها تيقّنتُ من أنّنا سوف نستقرّ في سجن صيدنايا العسكري.

13)- ماذا عن استقبالكم في السجن؟

– الإجابة: الزمان: اليوم الثامن من نيسان عام 2004م، الأحداث: بعد رحلةٍ استغرقت 16 ساعة بين محافظتي الحسكة ودمشق (الرحلة إلى المجهول) أخيراً وصلنا إلى سجن صيدنايا السيئ الصيت، بل المرعب شكلاً ومضموناً، هذا السجن متربّعٌ على هضبةٍ عاليةٍ، ومحصّنٌ بالمتاريس والمدافع وطائرات الهيلوكوبتر، والأسلاك الشائكة، ويحتلّ بقعةً جغرافيةً واسعةً وتسميته على اسم مدينة صيدنايا المسالمة.

 ولم نعرف الترتيبات والتجهيزات لاستقبال من كسروا قلعة الرعب في كلّ المدن الكردية وأماكن تواجد الكرد في سوريا، لكنْ كان متوقّعاً أنْ تكون التجهيزات تليق بحجم وفظاعة الرعب المزروع منذ عشرات السنين في سوريا بشكلٍ عامٍّ، والمناطق الكردية بشكلٍ خاصٍّ، وذلك من خلال الفروع والمفارز المخابراتية منذ أنْ استلم حزب البعث السلطة.

  • كان الشفق يلوح في الأفق، والشمس تخجل من الشروق، حيث الجلادون يرفعون أصواتهم من دون خجلٍ، والظلم هو سيد الموقف هناك.
  • دخلت السيارات عبر مداخل أوليةٍ مزيّنةٍ من الخارج، ومرت عبر دهاليز مرعبةٍ، وتوقّفت من دون سابق إنذارٍ، وهي عبارة عن سيارة جيب حمراء للشرطة العسكرية وسيارتي ستيشن، وسيارتي زيل عسكريتين قديمتين كانتا تقلّ الموقوفين، الزيل الأولى كان بداخلها 28 شخصاً والثانية 58 شخصاً (تعرفت على هذه الأرقام من خلال كلام مدير السجن المركزي بالحسكة حين ذاك (العزاوي).
  • الكلّ مقيدٌ ومعصوب العينين، فقط أنا الوحيد الذي كنتُ أتحكّم بطماشتي؛ لحدوث خطأٍ عند تسليمي لشرطة السجن من قبل الأمن السياسي، حيث فكّوا القيد من معصمي في ساحة السجن وسلموني للشرطة، وبقيت يداي متشابكتان، وكنتُ أحمل قميصاً، وظنوا أنّ يديّ مقيّدتان، ودفعوا بي بين المعتقلين في الزيل، عند وصولنا إلى ساحة سجن صيدنايا وضعتُ طماشتي بعد أنْ شاهدتُ ما لم يشاهده أحدٌ من زملائي، حيث العشرات من أصحاب القبعات الحمراء مفتولي العضلات كالذئاب الجائعة، وكأنّهم ينتظرون الفريسة منذ الثاني عشر من آذار، يصرخون ويشتمون، نادى أحدهم بصوتٍ قويٍّ وقال: (بينهم محامي هاتوه بسرعة)، (توقّعت بأنّ الدوريات المرافقة لنا قد أخبروهم) لا أدري كم كان عدد الذين تقدموا إلى الزيل وسحبوا من هم في البداية ويضربونهم ويسألونهم: (أنت محامي، أكيد أنت)، أسمع الأجوبة والصراخ: لا لا لستُ محامٍ، وصلني الدور فقلتُ: نعم أنا المحامي، وبدأ سيلٌ من شتائم التي لم أسمعها في حياتي، وقال: لماذا لم تقلْ أنا منذ البداية، ومسكني أحدهم من شعري وكأنّه يحمل خروفاً لذبحه، ورماني على الأرض، استلمني من هم في الأرض بركلات وكفوف أصبح لها أصوات وألحان يعجز الوصف عنها، كنت أرتدي حذاءً، حيث بقيت (فردة) برجلي ولا أدري أين الأخرى، جنّ جنونهم عندما وجدوا يدي غير مقيدةٍ، تورّم وجهي من الكفوف، وأحدهم كانت بيده آلة حلاقة يدوية قديمة توقّعتُ أنّها من بقايا أدوات العثمانيّين، وقاموا بحلاقة شعري، حيث كانت تلك الآلة لا تحلق، بل تشدّ الشعر من الجذور، وكنت أشعر بأنّ جذور الشعر تخرج من قلبي من شدة الألم، لا أعرف ماذا يجري لزملائي فقط أشعر بالوحدة؛ لأنّ التعذيب الفظيع كان يلهيني عنهم.. جاءني شخصٌ ورفع الطماشة قليلاً عن عيني، ونظر إليّ مغروراً متكبراً وبعنجهيةٍ قال: (أنا كمان رأسي يابس مثلكم أنتم الأكراد)، وأعاد الطماشة مرةً أخرى ونطحني بقوةٍ ثلاث مراتٍ، عرفتُه فيما بعد المساعد أول ماهر، في الخمسين من عمره، أصلع الشعر، ذو بشرةٍ شقراء، تأكدت بأنّه ليس عربياً، وبعدها تم تجميعنا في ساحةٍ ليست كبيرةً، جاثين على ركبنا، ويجبرون بعضنا على وضع الأحذية في فم بعضنا الآخر والضرب بالكابلات إذا لم نفعل ما نؤمر به.
  • عادةً عند اعتقال شخص ووضعه في السجن يأخذون النطاق (قشاط البنطلون) ورباط الحذاء منه، فأصبحت (بناطيل) المعتقلين بعد هذا التعذيب الهمجي تتساقط، بعضهم لم يشدها بخيطٍ أو لم يربط العروات بعضها ببعضٍ.
  • كانوا يتلذذون بتلك المناظر، حيث شعرنا الطويل ولباسنا المتوسخ؛ بسبب التعذيب في الفروع والمفارز الأمنية، وعدم تناول الطعام والتفكير والأحلام المرعبة؛ فتحوّل الكثير منا خلال أسبوعين إلى كومةٍ من العظام، حيث الرعب الممارس من قبل لجان التحقيق في الحسكة.
  • أمروا بفتح الطماشات فقط، وبدأ العدّ والجرد، والاستلام والتسليم من قبل إدارة السجن ونحن متجهين إلى الجدران، من يسمع اسمه يسحبه عنصرٌ من شعره ويجره إلى وسط الساحة وينكّس رأسه إلى الأرض، وينهالون عليه بالضرب إذا رفع رأسه قليلاً، ويتأكّدون من معلوماته الشخصية، حسب الجدول المرفق مع المعتقلين، التعب والألم والخوف من المجهول لا يفارقنا، هكذا وبعد أربع ساعاتٍ انتهى العدّ والجرد، وبدأتِ المرحلة الثانية من التعذيب الذي لم ينتهِ.
  • الضرب من كلّ الاتجاهات، والأمر بالصعود على الدرج لا ندري إلى أين يؤدّي؟ الكلّ يصرخ ويشتم ويخلق حالةً من الرعب في المكان، الجلادون موزّعون على الدرج، ومن يمرّ من جانبهم كانوا يضربونه بالكابلات ويشتمون بكلماتٍ تقشعر لها الأبدان، وكنا نصعد الدرج بحالة اللاوعي، حيث سقط أحد المعتقلين اسمه (م، ن) فقام أحد الجلادين بـ (رفسه) بقوةٍ؛ فضرب رأسه بالدرج وسال الدم من جبهته، رآه عنصرٌ آخر من الجلادين وقال له: من كسر رأسك؟ ردّ عليه (م، ن) أحد العناصر ركلني فسقطت أرضاً، فقام الجلاد بضربه وقال: بل قلْ: تزحلقت..، فقال: (م، ن) نعم تزحلقت سيدي.
  • لا نعلم كم طابقاً صعدنا، لكنْ فيما بعد عرفنا أنّنا في الطابق الثالث، جمعوا كلّ 18 معتقلاً، ووضعونا في غرفةٍ ذات بابٍ كبيرٍ من الشبك الفولاذي مطلةٍ على ممرٍّ طويلٍ، كنتُ في الغرفة رقم (4)، أمرونا بأنْ نتجه إلى الجدران ويمنع الالتفات، وكانت الجدران الثلاثة في الغرفة مدقوقٌ فيها مساميرُ كبيرةٌ، مربوطٌ بها حبالٌ مدلّاتٌ إلى الأرض، لم نتكلّم مع بعضنا، ولكنّ كلّ واحدٍ منا يتخيل أنّ هذه الحبال سوف يربطوننا بها ويعذبوننا، الكلّ مقيدٌ بقيودٍ بلاستيكيةٍ وقد تورّمت أيدي الكثير منهم، وأنا الوحيد الذي لم أكن مقيداً.
  • خرجوا لم يغلقوا الباب وتركونا وحدنا، كان معنا كثيرٌ من الأطفال الذين تم اعتقالهم من دون أيّ اعتبارٍ لعمرهم، ومنهم المعتقل، (ب، س، ج) عمره أقل من 13 عاماً حينها، ولم أعرفه من قبل، كان واقفاً بجانبي، قال : (عمو أنا لا أحتمل سوف أتبول)، قلت له: لا نعرف أين هي (التواليتات)، سمعت صوتاً من بين المعتقلين قال: هناك إلى اليمن يوجد تواليت في نفس الغرفة، فقلت: للطفل ( ب، س، ج): تعالَ معي وسوف أساعدك في فتح سحاب بنطالك حيث يدك مقيدةٌ، ذهبنا وساعدته، لكنْ من الخجل والاحترام حاول التبول، ولكنّه لم يستطع، عدنا إلى أماكننا ولم يلحظنا أحدٌ من الجلادين فقد كانت حفلات التعذيب في الغرف الأولى والثانية، ثمّ جاء دورنا، دخلت مجموعةٌ من العناصر إلى الغرفة وأمرونا بالانبطاح وقاموا بالضرب على كلّ مكانٍ في جسمنا، تألّمتُ كثيراً حين سمعتُ صوتاً يصرخ ويقول: لقد كسرت رقبتي؛ لأنّ الجلاد وضع (بوطه) على رقبته وضغط عليها بقوةْ؛ فكسر عظم الترقوة،عرفتُه فيما بعد كان الأستاذ القدير أبو شفيع من مدينة تربسبية، كان معلماً ومربياً يتجاوز الخمسين من العمر، حيث الهدوء الذي يتوسّطه الأنين والتنهد، سمعتُ صوتاً ينادي سيدي أريد أنْ أتبوّل، قال الجلاد الموجود في الغرفة: (اذهب إلى التواليت يا خرى.. مين ماسكك..؟)، كانت يده مقيدةً وعربيته ضعيفة، فقال: أنا أريد محامياً، ضحك الجلاد بسخريةٍ بأعلى صوته وقال: (ليك بده محامي ليروح على التواليت شوفوا الحيونة)، لكنْ كلّنا فهمنا قصد زميلنا إلا الجلاد لا يعرف ماذا يقصد، كان يقصدني؛ لأنّني ساعدت الطفل (ب، س، ج)، وبقي من دون أنْ يذهب لقضاء حاجته، وبعدها أمرونا بأن يخرج كلّ واحدٍ منّا إلى الكريدور؛ لكي يحلق شعره ولحيته، كان الجلاد الذي يقوم بمهمة الحلاقة مبدعاً في التعذيب، حيث كان يحلق الشعر وكأنّه يتقن رسم الخرائط، وإنشاء لوحاتٍ فيها الهضاب والسهول والوديان، ويقوم بحلاقة شاربٍ ويترك الآخر، وكذلك اللحية؛ فالمعتقل لا يرى شكله إلا من خلال اللمس بيده على شعره أو شاربيه أو لحيته، عندها يتعرّف على شكله، كنّا نرى صورنا من خلال مشاهدة شكل زملائنا، رغم الألم والجراح، ولكنّ المناظر كانت مضحكةً، وكلّ من ينتهي من الحلاقة يُجبر على حمل رغيفٍ من الخبز المرمي على الأرض ووضع عليها قطعةً من الحلاوة، فتصبح الحلاوة مجبولةً بالشعر والدموع وأحياناً بالدم، ويجبر المعتقل على أكلها، ويعود إلى مكانه ووجهه إلى الجدار، حتى إذا انتهى الجميع من الحلاقة أُمرنا أنْ يذهب كلّ واحدٍ ويأخذ بطانيتين وعازلاً ومخدة من المستودع الموجود في نفس الطابق، حيث كانت البطانيات مكدسةً هناك، لا يُعرف تاريخ تكديسها، ويُتوقّع أنّها من الثمانينيات زمن اعتقال جماعة الإخوان المسلمون، حيث كانت متّسخةً وبداخلها حشراتٌ متنوعةٌ، وكان البرد في صيدنايا في شهر نيسان شديداً وكأنّنا في شهر كانون الثاني، فرحنا كثيراً عندما أخذنا تلك البطانيات وفرشناها على أرض المهجع، نادى أحد الجلادين: الكلّ اجتماع في نهاية الكوريدور عند أول غرفةٍ، وإذا بضابطٍ برتبة مقدّم عرّف عن نفسه وقال: أنا مدير السجن، وبدأ بمحاضرةٍ في الأخلاق التي هو مجرّدٌ منها، وقال: (يا محامي شو عقوبة من يكسر تمثال السيد الرئيس)، (موجهاً السؤال لي)، قلتُ: يكون الحكم حسب وضع الفاعل وردّة فعلٍ من فعلٍ آخر، وإذا بعنصرين ينهالان عليّ ضرباً وقالوا: بل يجب أنْ يُعدم.. ما هذا الحكم..؟، وجلستُ بمكاني من دون كلامٍ.
  • أمّا مدير السجن وبعد أنْ ألقى محاضرته المجبولة بالحقد والبغض وإظهار نفسه وكأنّه حامي عرش الأسد، أمرنا بالعودة إلى المهاجع والانضباط في السجن.
  • الوقت: عصراً، ولا نعرف كم هي الساعة، حيث الكل مجردٌ من الساعات، وأُغلقت الأبواب، ومن شدّة التعب والخوف من المجهول تغطّينا بتلك البطانيات، ونمنا إلى اليوم التالي قبل شروق الشمس، استيقظنا على عويل وشتائم العسكر، وفُتحت الأبواب ليومٍ جديدٍ لا نعرف ما هو الجديد فيه..!.

14)- كيف كانت التحقيقات؟ وهل من فرق في المعاملة بين معتقلات المحافظة والسجن في دمشق؟

– الإجابة: في البداية كانت اللجنة الأمنية (المخابراتية) هي نفسها، حيث انتقلت إلى السجن في صيدنايا، وبقيت تمارس كلّ الوسائل التعذيبة التي مارستها في الفروع الأمنية في المحافظة، وبقي التعذيب مستمرّاً في السجن حتى تاريخ تحويلنا إلى النيابة العسكرية بدمشق بتاريخ ٢٤ حزيران، أمّا بعدها تغيّر التعذيب الجسدي إلى أساليب جديدةٍ، خاصةٍ بالسجون، حيث الأكل والمشرب والحمامات والمرض وعدم الاهتمام بالنظافة، والصعوبات التي يتعرّض لها الأهل عند الزيارة، ويوم جلسة المحاكمة والصعوبات التي يمرّ بها المعتقل خلال ذاك اليوم، الذي لا توجد فيه عدالةٌ رغم أنّك تعرض أمام قاضٍ لا يعرف عن القانون شيئاً سوى ما أُملي عليه من قبل السادة المخابرات الذين نظّموا الضبط.

15)- هل تغيّرت معاملة السجانين معكم على مدار سنةٍ من اعتقالكم؟

– الإجابة: نعم انقسمت سنة الاعتقال إلى ثلاثة أقسامٍ:

– القسم الأول: في الفروع الأمنية وجزءٌ كبيرٌ منه في سجن صيدنايا، حيث كانت المعاملة في أسوأ حالاتها، وقد مات تحت التعذيب الشهيد فرهاد، وهناك أشخاصٌ مازالت آثار التعذيب ظاهرةً على أجسادهم، حيث تعرّضنا لأبشع أنواع التعذيب.

– القسم الثاني: عند تحويلنا إلى سجن عدرا المركزي في الأجنحة المخصصة لجرائم المخدرات والقتل العمد والمحكومين بالسجن المؤبد، كنا نعاني مرارة السجن فوق صعوبة التعامل مع المساجين غير الكرد، وحدث شجارٌ بيننا وجرح بعضٌ منّا، وكنت مصرّاً يومها بوجوب نقلنا من هذه الأجنحة الخطيرة الصعبة التعامل مع المساجين، وفعلاً تمّ نقلنا إلى داخل السجن.

– القسم الثالث: كان منذ بداية الشهر التاسع وحتى تاريخ تركنا 31/3/ 2005م، حيث كنا نعامل معاملة السجناء أسوةً بغيرنا، مع العلم أنّنا كنّا جميعاً نفتقر إلى أبسط حقوق السجناء بموجب القانون الدولي والمعاهدات المتعلّقة بحقوق السجناء.

16)- ماذا عن زيارات الأهل؟

– الإجابة: لم يُسمح بزيارة الأهل إلا بعد مرور حوالي ثلاثة أشهر، وبعدها تم إخبارنا بأنّه تجوز الزيارات، لكنْ ضمن شروط وقيود صعبة جداً، وذلك بوجب أخذ موافقة النيابة العامة العسكرية، ويجب أنْ يكون الشخص الزائر من الأقارب المباشرين، الدرجة الأولى أو الثانية فقط، مع تتطابق الكنية، وكانت الصعوبة الأكبر عند الأشخاص الذين لا يملكون بطاقة شخصية (جنسية)، وفيما بعد، في سجن عدرا، سمح لهم بالزيارة بعد المطالبة المستمرة من قبل محاميّ السجناء.. عدا عن مشقة السفر من قامشلو وعفرين إلى دمشق وتحديد يوم وساعة الزيارة، حيث كان الكثير منهم يحمل عبء الخسائر المادية المعنوية ولم يتمكنوا من زيارة أولادهم.. أمّا بالنسبة لي، لم يقم بزيارتي لا أمي ولا أبي وكثير من الأهل، ولم آبه بذلك؛ لمعرفتي مدى الصعوبات التي يتعرّض لها الزائر.

17)- ماذا عن إعانة الحركة السياسية لكم؟

-الإجابة: الحركة السياسة الكردية لم تقدم أيّة إعاناتٍ مادية؛ لأنّها في الأصل لا تملك مشاريع اقتصادية أو استثمارات لتقديم العون لأحدٍ من فوائد تلك المشاريع، بل تعتمد على الاشتراكات الشهرية للأعضاء الذين يُعدّون على الأصابع في بعض الأحزاب، الأحزاب الكردية فقط كانت وسيطاً بين ذوي المعتقلين والجهات المموّلة لصندوق الإعانات، الذي كان يشرف عليه بعض قادة الأحزاب السياسية، ويقومون بتوزيعها على ذوي المعتقلين، ولم يصلنا من الحركة الكردية أيّة مساعدات مباشرة إلى السجن، بل كانت تقدّم للمعتقل المتزوج مبلغاً شهرياً وقدره 5000 ل.س، وللشاب غير المتزوج 3000 ل.س.

18)- والمحامون الكرد- زملاؤك- ما كان دورهم؟

– الإجابة: بعض المحامين الكرد بذلوا جهداً كبيراً في الانتفاضة، وقفتهم مع المعتقلين وذويهم كانت وقفة عزٍّ وكبرياء، رغم البطش والإرهاب الذي كان من المتوقّع أنْ يُمارس ضدّهم من قبل نقابة المحامين التابعة للنظام والأفرع المخابراتية حالها كحال باقي النقابات في سوريا، إلا أنّهم تطوّعوا للدفاع عن المعتقلين ومتابعتهم في مراحل التحقيق بعد إحالتهم للمحاكم، زياراتهم للسجون وتقديم المساعدات لأهلهم وكل ما يتعلق بالمعتقلين، أمّا باقي المحامين الكرد الجبناء الذين لم يقدّموا أيّ دعمٍ معنويٍّ، وكانوا الأغلبية، حيث كان عدد المحامين الكرد في نقابة المحامين في فرع نقابة الحسكة على سبيل المثال (400) لم يتطوّع منهم أكثر من (25) فقط للدفاع عن المعتقلين، بل كان من المفروض أنْ يكون هناك أكثر من النصف لهم أسماء في وكالات الدفاع عن المعتقلين، وأذكر منهم المحامي القدير رضوان سيدو، ومصطفى أوسو، ومحمود عمر، وإبراهيم أحمد، وفيصل بدر، وعبدالعزيز أيو، وعماد موسى، ودلشا أيو، ودرويش ميركان، وجميل إبراهيم، وحسن مشو، وعبدالسلام أحمد، وفايز عليكو، وعبدالمجيد حاج محمد، ومصطفى محمد أمين، وقد زارني بعض الزملاء في السجن عندما سُمح لهم ذلك..

19)- من أية مناطق كردية كان المعتقلون؟

– الإجابة: من كلّ المناطق الكردية من ديركا حكوا شرقاً، وكوباني وعفرين غرباً، حتى ركن الدين وَزور افاف جنوباً في دمشق، لم تبقَ منطقةٌ في جغرافية كردستان سوريا ولم يُعتقل منها أحدٌ، بل كل منطقة أخذت نصيبها من المعتقلين وروي ترابها بدماء الشهداء.

20)- ماذا عمن كان مظلوماً؟

– الإجابة: كان الكثير من المعتقلين قد تمّ حبسهم بموجب وشايةٍ من جارهم المخبر، أو صديقهم في العمل، أو حاقدٍ له علاقاتٌ مع المخابرات، حيث كان هناك معتقلين لم يكونوا يوم الانتفاضة موجودين في المنطقة.

21)- على أيّ أساسٍ تمّ اعتقالكم؟

– الإجابة: ذكرتُ أنّ الاعتقالات كانت على الهوية في كثيرٍ من المناطق، وخاصة في دمشق، حيث تمّ اعتقال الآلاف من كل المدن الكردية، اعتُقل أغلب الشباب الكردي وتمّ زجّهم في معتقلات الأفرع الأمنية، وحجزهم في المدارس والمجمعات الحكومية؛ لخلق حالةٍ من الرعب بين عامة الناس، وزيادة حالة الهلع والخوف والضغط على الشعب الكردي للهروب من مناطقهم إلى أماكن أخرى والابتعاد عن الأنظار، وكان التهديد  بالحكم عليهم بأحكام قاسيةٍ.

22)- هل كان هناك من ضُبط على أنّه ارتكب مخالفاتٍ قانونيةً وفق معاييرالنظام؟

– الإجابة: لا أبداً.. فقد تمت الاعتقالات بعد الأسبوع الأول من الانتفاضة، ولكنّهم أجبروا المعتقلين على اعترافاتٍ لم يكن لها أساسٌ من الصحة أبداً، حيث تلحق بالمعتقل تهمٌ كثيرة، ويُدّعى عليه بأنّه قام بأشياء وأفعال لم يفعلها أصلاً، على سبيل المثال: اعترف أحدهم بأنّه حرق مركز الأعلاف في قامشلو والمركز لم يحترق في الأصل.

23)- ماذا عمّن وشوا بكم؟ هل كانوا أناساً معروفين؟

-الإجابة: نعم بالنسبة لكلّ المناطق كلّ المخبرين كانوا معروفين؛ وتبيّنت لنا أسماؤهم بعد أنْ طلب قاضي التحقيق العسكري الثالث بدمشق مأمون كحيل من قاضي الفرد العسكري قامشلي دعوةَ المخبرين كلٌّ على حدةٍ؛ للتأكيد على ما كتبوه وجعلها شهاداتٍ للحقّ العام على المعتقلين، عندها عرفنا الأسماء بالتفصيل، وكذلك مضمون وشاياتهم التي أصبحت شهاداتٍ للحقّ العام ضدنا، هذا في كلّ المناطق، ونحن بعد أنْ سمعنا ذلك طلبنا تصوير ملفاتنا من المحامين، وبعد التصوير تبيّن كلّ شيءٍ.. وتمت دعوتهم إلى دمشق- المخربين- للحضور أمام محكمة الجنايات العسكرية التي كان يرأسها محمد الأسدي، وقد حضر بعضهم جلسات تلك المحكمة بصفة شاهد حقٍّ عام.

24)- ماذا عن أعداد المعتقلين في المدن؟

– الإجابة: كان لأهل المدن النصيب الأكبر من الاعتقالات، حيث كانت الانتفاضة قد عمت كلّ المدن، ولكنْ كان للريف الكردي في كل المناطق الكردية دورٌ كبيرٌ في دعم ومساندة ومشاركة المدن، وقد تم اعتقال الكثير من أهل الريف، وكان الكثير منهم معتقلين معنا.

25)- ذكرتَ لي أنّ هناك من كان يتلذذ بتعذيبك كمحامٍ هل تذكر ذلك؟

الإجابة: نعم كان جميع الجلادين بما فيهم المحققين يميزون أصحاب الشهادات عن باقي المعتقلين، حيث كانوا يعطونهم الحصة الأكبر من التعذيب حتى يكسروا نفسية باقي المعتقلين.. لا أريد ذكر الأسماء، حيث تم توجيه السؤال لأحد المعتقلين من قبل أحد العناصر بقوله: أنت رجلٌ أم امرأة، وكان يجب عليه أنْ يقول: أنا امرأة بقصد الإهانة.. قالها خوفاً من بطش الجلاد.

بالنسبة لي حدثت معي مواقف كثيرةٌ، حيث الكل كانوا يخبرون بعضهم بوجود محامٍ بين المعتقلين، وبات الكلّ يريد (كسر نفسيتي) بأسلوبٍ موجّهٍ وممنهجٍ بتعليمات من قادتهم، الحديث يطول بهذا الخصوص، لكنْ سوف أذكر حالةً تكرّرت كثيراً.. ففي بداية نقلنا إلى سجن صيدنايا العسكري، كان هناك عنصرٌ برتبة رقيب اسمه ماهر من مدينة درعا، كان كل صباحٍ يدخل إلى المهجع، ويقوم بضربي عدة صفعات وركلات ويقول: والله أنا أتلذذ بضرب المحامين ويخرج، وقد فرحتُ كثيراً عندما سمعتُ أنّه في إجازةٍ، لا أدري هل نال مكافأةً على أفعاله اللإنسانية تجاه المعتقلين؛ فمنحوه إجازةً طويلةً؟.

عندما كان يخرج ماهر من المهجع كنت أتظاهر بأنّني مسرورٌ من تصرفات هذا اللعين حتى لا يشعر زملائي بعجزي وضعفي تجاه هذا الصعلوك، الذي يضربني بيد السلطة الأمنية المخابراتية وليس بيده، فكنت أقول لهم وبسخريةٍ وعلى شكل مزحةٍ؛ ليضحك الجميع: أتدرون ماذا يقول ماهر الجلاد لأمّه وأخته عندما يعود إلى البيت؟ يقول لهم: (اليوم ظربتلش شم شف لمحامي ما قدر يحكي ولا شلمة)، وأمّه تردّ وتقول: (عفية ماهر أعرفك رجّال من يوم يومك طالع لأبوك)؛ فيضحك الجميع وأنا معهم.

26)- وماذا عمن قلتَ له: لسنا حيواناتٍ، بل بشرٌ مثلك؟

– الإجابة: كانت كل صباح حوالي الساعة السادسة تدخل مجموعةٌ من عناصر الشرطة العسكرية إلى المهاجع وتصرخ وتشتم وتخلق ضجيجاً مرعباً، ويقولون بصوتٍ عالٍ: (شو أنتوا؟)، وكان يجب علينا أنْ نقول لهم: نحن حيوانات، بقر، حمير، وكان يجب أنْ ندير وجهنا إلى الجدران حتى لا نرى وجوههم.. وفي إحدى المرات قرّرتُ في نفسي أنْ أستدير وأقول لهم: نحن بشرٌ.. هذا إذا كنتم تعرفون من هم البشر، وفعلاً قمت بذلك، وإذْ بأحدهم برتبة رقيب أول، شمّر عن ساعديه المفتولين، كان قوياً ومدرّباً، واتجه نحوي كحيوانٍ مفترسٍ يريد أنْ ينقضّ على فريسته، وقام بشتمي بكلّ الكلمات التي تليق به، وصفعني ستَّ مراتٍ على وجهي، وفي كل مرةٍ كنتُ أسقط فيها على الأرض يقوم ومن معه بنهضي؛ لأقف على رجليّ مرة أخرى؛ ليصفعني من جديدٍ إلى أنْ سقطت على الأرض، وشعرت بدوار من شدة قوة يده، وتورّمَ وجهي وانكسر أحد أسناني.. كل زملائي بكوا من أجلي، ولكنّني كنت سعيداً؛ لأنّني واجهتُه بحقيقةٍ كان لا بدّ منها، ولم أندم أبداً على ذلك.

27)- وماذا عمن سألكَ عن عقوبة من يحطّم تمثال الرئيس؟

– الإجابة: كان ذلك في أول يومٍ من استقبالنا المرعب في صيدنايا بعد حفلة التعذيب المرعبة

والوحشية، حيث نادى أحد الجلادين: الكل اجتماع في نهاية الكوريدور عند أول غرفةٍ، وكانت رؤوسنا منكّسةً إلى الأرض بأمرٍ من مجموعةٍ من الجلادين الواقفين على رؤوسنا، وإذا بصوت نعل أحد الأشخاص قادماً إلينا، وبدأ بالوعظ والوعيد: أنتم فعلتُم كذا وكذا.. فإذا به ضابط برتبة ، هو عرّف عن نفسه ورتبته، وقال: أنا مدير السجن، وبدأ بمحاضرةٍ في الأخلاق التي هو مجرٌّد منها، وقال: أين هو المحامي الذي بينكم..؟ وإذا بأحد الجلادين يرفعني من دون أنْ يسمح لي برفع رأسي، حيث كان رأسي بين يديه، سألني الواعظ الذي عرّف عن نفسه بأنّه مدير السجن وقال: ما هي عقوبة من يكسر تمثال السيد الرئيس الخالد..؟.

أجبتُه بصوتٍ منخفضٍ مسموعٍ: يكون الحكم حسب وضع الفاعل وردّة فعلٍ من فعلٍ آخر، وإذا بعنصرين ينهالان عليّ ضرباً وقالا: بل يجب أنْ يُعدم.. ما هذا الحكم؟، وجلست بمكاني من دون كلام، وعندها لم أرَ من أين تأتيني الركلات والصفعات، وقالوا: بل الإعدام، وأعادوني إلى مكاني، وقال مدير السجن: أنت محامٍ فاشلٌ ويجب أنْ يُنظر في وضعكَ.. وتابع حديثة بين الترهيب والوعظ والإرشاد.

(*****) هل حقاً كان هو من حطّم التمثال؟

نعم تمّ تحطيم تمثال المقبور حافظ الأسد في كثيرٍ من الأماكن، وخاصة في مدينة، حيث تم سحبه في الشوارع بالجرار الزراعي، ومن فعلها كان معتقلاً معنا واعترف بذلك.

28) -هل اعترف بعضكم بما نُسب إليه من اتهاماتٍ؟

– الإجابة: نعم.. الكثير منّا اعترف تحت التعذيب، بل زاد في اتهام نفسه بأفعالٍ لم يُقدم عليها، حتى يتوقّف الجلاد عن تعذيبه، حيث كان التعذيب لا يتوقف إلا عندما يقول المعتقل: فعلتُ كذا وكذا وكذا، وينظّم له ضبطٌ؛ ليحال بموجبه إلى المحاكم، كثيرٌ منّا اتبعوا هذه السياسة؛ للخلاص من التعذيب المتكرر، وكان هناك شخصٌ اسمه أحمد من قامشلو عاد من التحقيق وهو مسرورٌ بعد جولاتٍ من التعذيب، فسألتُه ما الذي يضحكك قال: (خلصت اليوم)، قلتُ كيف..؟، قال: (قالوا أنت فعلتَ كذا؟، قلتُ: نعم، قالوا: أنت (أبو لجي)؟، قلتُ: نعم، قالوا: أنت حرقتَ الفرن؟ قلتُ: نعم، أنت..؟ أنت فعلتَ..؟: نعم.. وقال: قلتُ لهم: (حطّوا كلشي عليي) وهو يضحك.. المهمّ خلّصت).

29)- هل كان من بين جلاديكم أو سجّانيكم كرد؟

– الإجابة: لم يمرّ عليّ جلادٌ كرديٌّ، ولكنْ في الشرطة العسكرية في سجن صيدنايا كان هناك شخصٌ برتبة نقيب، عرفتُه في آخر يومٍ قبل خروجنا من السجن، اسمه عبدالمجيد غباري من عفرين، كان المسؤول عن نقلنا من السجن إلى المحكمة، كان شخصاً بعيداً كلّ البعد عن الأخلاق الكردية والإنسانية، يعذّبنا ويقوم  بشتمنا في كلّ حركةٍ من حركاته، كان مغروراً لدرجة أنّه كان يتلذذ وهو يرانا مقيدين متعثّرين في قيودنا، في آخر يوم اقترب أحد العناصر وهمس في أذني وقال: (لا تقول بس نحن العرب عم نسبكم، هذا هو كرديّ ومن عفرين واسمه عبد المجيد ويفعل مثلنا)، فقلتُ له: هذا تربيتكم.. ولا يعمل بأصله، وفعلاً سألنا عنه أهل عفرين، فقالوا: إنّه ابن أخي عبدالحميد غباري المعروف في عفرين.

وقد ذُكر اسم (أبو رودي) من قامشلو، وكان في أحد الفروع الأمنية، وكذلك أنور وهو كرديٌّ من ديركا حمكو، كانوا يشتكون منه كثيراً.

  • (رغم كلّ الألم والجراح التي لم ولن تندمل.. إلا أنّنا ككرد سوريا كنّا نحتاج لهذه الانتفاضة..).

*محام وكاتب من معتقلي الانتفاضة.

 

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

بوتان زيباري   يا سوريا، يا رعشة التاريخ حين يختلج على شَفَة المصير، ويا لُغزَ الهوية حين تُذبح على مذبح الشرعية، ما بين سراديب القهر وأعمدة الطموح المتداعية. أنتي ليستِ وطناً فقط، بل أسطورةٌ تمشي على أطرافِ الجراح، تهمس للحاضر بلغةٍ من دمٍ، وتُنادي المستقبل بنداءٍ مختنقٍ بين الركام. أيُّ قدرٍ هذا الذي يجعل من أرض العقيق محرابًا للدم، ومن…

نتابع، في الشبكة الكردية لحقوق الإنسان والمنظمات الحقوقية الكردية في سوريا، بقلق بالغ تصاعد حالات اختطاف الأطفال القُصَّر، خاصة الفتيات، من قبل ما تُسمى بـ”منظمة جوانين شورشكر” أو “الشبيبة الثورية”. حيث يُنتزع هؤلاء الأطفال من أحضان عائلاتهم ويُخفَون في أماكن مجهولة، دون تقديم أية معلومات لأسرهم عن مصيرهم. لقد حصلنا على قوائم بأسماء عدد من القاصرين والقاصرات الذين تم اختطافهم…

إبراهيم اليوسف   مرت مئة يوم منذ سقوط النظام، وشهدت البلاد تحولًا سريعًا- يشبه ما يحدث في الخيال العلمي- وكأنها عاشتها على مدى قرن بل قرون. هذه الفترة القصيرة كانت مليئة بالأحداث الجسيمة التي بدت وكأنها تحولات تاريخية، رغم قصر الوقت. ومع كل هذه التغيرات، تبقى الحقيقة المرة أن السوريين يواجهون تحديات أكبر من أي وقت مضى. بدأت المرحلة الجديدة…

نظام مير محمدي*   في خطبته التي ألقاها الولي الفقيه علي خامنئي بمناسبة عيد الفطر قال وهو يشير الى التهديدات المحدقة بالنظام الإيراني: “يهددوننا بالشر. لسنا على يقين بأن الشر سيأتي من الخارج، ولكن إن حصل، فسيتلقون ضربة قاسية. وإذا سعوا لإشعال الفتنة في الداخل، فإن الشعب الإيراني سيتولى الرد”، وفي کلامه هذا الکثير من الضبابية وعدم الوضوح لأن…