قوافل العودة إلى عفرين: حين يصبح الحنين إلى” المنزل الأول” مأساة

إبراهيم اليوسف

 

لقطات من المسافة صفر:

يقف عند باب منزله في الشيخ مقصود، ذات صباح أسود، وهو يحدق في الجدران التي شهدت تفاصيل حياته. على هذا الحائط علّق صورة عائلته الصغيرة، وعلى ذاك الركن كانت أول خطوات طفله. كل شيء هنا يروي حكاية وجوده، لكن اللحظة الآن تعني الفقد. جمع بضع” حاجيات” في حقيبة مهترئة، نظراته ممتلئة بالحزن، وكأنها تقول وداعًا ليس فقط للمكان، بل لجزء من روحه أيضًا.

في الضباح ذاته:

أطفأ صاحب دكان البقالة الصغير قرب زاوية الحي أنواره للمرة الأخيرة. الرفوف الخاوية بدت كمرآة تعكس خواء المستقبل. لم يكن يعرف إن كان سيعود يومًا ليعيد ترتيبها، أم أن كل ما تركه هنا سيظل شاهدًا صامتًا على حياة أصبحت من الماضي.


وقف الطفل أمام بوابة مدرسته التي كانت شاهدة على أحلامه الصغيرة. حجارها الرمادية بدت وكأنها تحتضن ذكريات لعبه مع أصدقائه، وضحكاته التي كانت تملأ الساحة. اليوم، يضع حقيبته جانبًا ويودّع المكان بدموع لم يستطع إخفاءها، متسائلًا إذا ما كان سيعود يومًا ليكمل دراسته أم أن المستقبل سيأخذه بعيدًا عن حلمه البسيط.


وقف الشاب عند الزاوية التي طالما التقى عندها حبيبته. الباب الخشبي البني، الذي كان يومًا شاهدًا على وعود الحب والأمل، بدا اليوم غريبًا عنه. لم يطرق الباب هذه المرة، بل نظر إليه طويلًا وكأنه يحفر صورته في ذاكرته، ثم استدار لينضم إلى قافلة المغادرين، يحمل في قلبه عبء الحب والفقد.
في ركن صغير من المنزل، جلست الأم تتأمل المطبخ الذي شهد سنوات من حياتها. هنا كانت تطبخ لأطفالها، وهنا رسمت الأحلام الصغيرة على رائحة الخبز الدافئ. جمعت أوانيها البسيطة في صندوق، وكل حركة بدت وكأنها انتزاع لجزء من روحها. خرجت مع عائلتها، تاركة وراءها مكانًا لن يعود كما كان.

وقف الشيخ عند شجرة زيتون قديمة في حديقته الصغيرة. يداه المرتعشتان لامستا جذع الشجرة التي زرعها بيديه منذ عقود. كانت الشجرة شاهدًا على كل مراحل حياته. في لحظة وداعه، أحس وكأنه يقطع صلة قديمة بأرضٍ أعطته الحياة، لكنها الآن تسرق منه.


في زاوية الورشة المظلمة، جلس العامل ينظر إلى أدواته القديمة التي كانت مصدر رزقه. المطرقة والمسامير وكل شيء آخر بدا كأنه يقول له: “لا تتركني”. جمع بضع أدوات في حقيبته وودّع المكان. خرج، لكن قلبه ظل معلقًا في ورشةٍ كانت شاهدة على كفاحه الطويل.على شرفة منزلها في الأشرفية، وقفت الفتاة تنظر إلى نافذتها الصغيرة التي تطل على الحي. هنا كانت تكتب أحلامها في دفترها الصغير، وهنا رسمت العالم كما تريده. أغلقت النافذة بحذر، وكأنها تودع كل تلك الأحلام التي ستبقى عالقة في المكان.
في ركن منزله المتواضع، جلس الجد يتأمل سجادة الصلاة التي رافقته طوال حياته. ببطء شديد، طواها ووضعها في حقيبته، وكأنها آخر ما يمكنه حمله من ذكرياته. همس بصوت خافت: “يا رب، احفظنا حيثما نذهب.

تلك نماذج لبعض من أهلنا الذين أخرجوا من حلب مضطرين  مكرهين يبحثون عن مأوى جديد لاسيما من ضاقت بهم الأرض ولا مآوي لهم غير بيوتهم التي طردوا منها!

رحلة نحو المجهول

قوافل العائدين إلى عفرين تنطلق بصمت ثقيل يشبه جنازة جماعية. من تل رفعت والشيخ مقصود والأشرفية، تخرج السيارات المهترئة، محملة بما تبقى من الأرواح والأحلام المحطمة. البعض سار على الأقدام، متحديًا البرد القارس، وبعضهم الآخر دفع آخر ما يملك ليستأجر مركبة بالكاد تعمل. الأطفال يلتفون حول أمهاتهم، يرتجفون من الصقيع، بينما الشيوخ يتكئون على عصيهم، غير متأكدين إن كانوا سيصلون أحياء.

وجوه العائدين تحمل الحيرة والخوف. يتساءلون عمّا ينتظرهم في مدينتهم المحتلة.  منهم من يعلم أن بيوتهم قد أصبحت مأهولة بمستوطنين دخلاء أغراباً، جلبوا في إطار سياسة تغيير ديمغرافي مدروسة. آخرون لا يملكون أي توقع سوى أن حياتهم ستبدأ من الصفر، وسط دمار وشتاء لا يرحم.

اغتيال أحمد حسو: صورة المأساة

وسط إحدى هذه القوافل، سقط المواطن الكردي أحمد حسو شهيدًا برصاص أحد مسلحي الفصائل المرتزقة، الذين ينفذون أوامر تركيا بلا هوادة. أحمد لم يكن مجرد ضحية أخرى، بل رمزًا لجريمة مستمرة تستهدف شعبًا بأكمله. اغتياله كان رسالة واضحة: حتى العائدون إلى بيوتهم ليسوا في مأمن.

الوصول إلى عفرين: خيبة الأمل الكبرى!؟

عندما تصل هذه القوافل إلى عفرين، تكون الصدمة أكبر من المتوقع. بيوت كثيرة أصبحت مستباحة، يسكنها غرباء لا تربطهم بالمكان أي جذور. مستوطنون ينظرون للعائدين بعين الحقد، وكأنهم دخلاء على أرضهم. بعض العائدين يضطرون للنوم في العراء، غير قادرين على شراء خيمة تحميهم من البرد.

في المخيمات المؤقتة، الأطفال يلعبون على التراب، يحاولون استنشاق فرحٍ بسيط وسط البؤس. أما الكبار، فيجمعون حطبًا لإشعال نيران صغيرة تبقيهم على قيد الحياة. المشهد بأسره يعكس ألمًا عميقًا: أناس يعودون إلى مدينتهم، لكنهم يجدونها غريبة عنهم، موحشة وكأنها ترفضهم.

إن عودة أبناء عفرين ليست فقط انتقالًا جسديًا، بل هي مواجهة مع ماضٍ لم ينتهِ وحاضرٍ يرفض أن يمنحهم الاستقرار. إنها محاولة للتمسك بما تبقى من الهوية رغم محاولات محوها. لكن هذه العودة، بدلًا من أن تكون بداية جديدة، تبدو وكأنها فصل جديد من المعاناة.

وهكذا فإن قوافل العودة إلى عفرين ليست نهاية للمأساة، بل فصل مستمر في حكاية الألم. إنها شهادة على قوة إرادة شعب يُصر على البقاء رغم كل الظروف. وبرغم كل الألم، تبقى عفرين بالنسبة لهم أرضًا تستحق التضحية، وبيتًا مهما كان بعيدًا.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

المهندس باسل قس نصر الله ونعمٌ .. بأنني لم أقل أن كل شيء ممتاز وأن لا أحداً سيدخل حلب .. فكانوا هم أول من خَرَج ونعم .. بأنني كنتُ مستشاراً لمفتي سورية من ٢٠٠٦ حتى الغاء المنصب في عام ٢٠٢١ واستُبدل ذلك بلجان إفتاء في كل محافظة وهناك رئيس لجان افتاء لسائر المحافظات السورية. ونعم أخرى .. بأنني مسيحي وأكون…

إبراهيم اليوسف بعد الفضائح التي ارتكبها غير الطيب رجب أردوغان في احتلاله لعفرين- من أجل ديمومة كرسيه وليس لأجل مصلحة تركيا- واستعانته بقطاع طرق مرتزقة مجرمين يعيثون قتلاً وفسادًا في عفرين، حاول هذه المرة أن يعدل عن خطته السابقة. يبدو أن هناك ضوءًا أخضر من جهات دولية لتنفيذ المخطط وطرد إيران من سوريا، والإجهاز على حزب الله. لكن، وكل هذا…

نظام مير محمدي* في 26 نوفمبر/تشرين الثاني، نشرت صحيفة جمهوري إسلامي الحكومية مقالاً بعنوان “الخوف من ثورة الجماهير الجائعة”، محذرة قادة النظام: “كل يوم، تتعمق الأزمة الاقتصادية؛ يزداد الفقراء فقراً، والأغنياء ثراءً، ويصبح المستنقع غير المسبوق من النخبوية الذي يجتاح مجتمعنا أكثر انتشارًا”. وسلط المقال الضوء على أن الطبقة النخبوية الجديدة “تعيش في قصور أكثر إسرافًا من قصور الشاه…

إبراهيم اليوسف   لقد أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي، في وقتنا المعاصر، منصات عالمية تتيح لجميعنا التعبير عن آرائنا، مهما كانت هذه الآراء إيجابية أو سلبية. لكن هناك ظاهرة جديدة تتجسد في ما يمكن أن نسميه “إطلاق النار الاستباقي”، وهو الهجوم أو النقد في صورته المشوهة الذي يستهدف أي فكرة أو عمل قبل أن يرى النور. لا تقتصر هذه الظاهرة على…