في نداء أوجلان ووعوده

عدنان بدرالدين

 

بعد تكهنات وطول انتظار، وبالرغم من أنه كان متوقعًا من جانب العارفين بمسيرة أوجلان وحزبه، جاء النداء الأخير الذي يُنسب لزعيم حزب العمال الكردستاني مثيرًا للقلق ومربكًا لصفوف مناصريه. وبدلًا من أن يبث فيهم الأمل، بدا بمثابة مرثية للاستسلام، وأشبه بأن يكون عرضًا يساوم على مصير شعب بأكمله مقابل خلاص فردي ممكن أو متوهم.

منذ اختطاف “المنتقم” من كينيا – فهذا ما تعنيه كُنية أسير إيمرالي في التركية – قبل ربع قرن، غاب عن إطلالاته المخطط لها بعناية في دوائر اتخاذ القرار للدولة التركية أي ذكر أو حتى إيماءة لكلمة “المقاومة”، وهي القيمة التي كانت الأكثر تداولًا في خطاب أوجلان وأتباعه، وحلّ محلها تماهٍ مريب مع السردية التي صاغها منذ زمن طويل مَن خططوا لوأد الحلم الكردي في الحرية. في ندائه الأخير، يتنكر أوجلان لما يقارب قرنين من التطلعات الكردية نحو الانعتاق، واصفًا كل النضال الكردي المضمخ بالمعاناة والدم بأنه مجرد أداة في يد “الحداثة الرأسمالية”، التي – كما يزعم – حاولت إجهاض اتفاق تركي – كردي مزعوم استمر لما يقارب ألف عام!

النداء يحرّف حتى مسيرة الحزب الذي أشرف هو شخصيًا على انطلاقته، واصفًا إياه بـ”التمرد العنيف” الذي وُلد من رحم سياسات قمع رسمية ولّت، وصلابة عقيدة اشتراكية واقعية اندثرت، فتحوّل بذلك إلى كَمٍّ مهمل يجب أن يُزاح عن طريق التطور ببساطة!

ولكن، هل هناك، غير السيد أوجلان، من يصدّق ادعاءً كهذا؟ نعم، في سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم، عندما ظهر حزب العمال الكردستاني، كانت تركيا بالفعل تنكر الوجود الكردي تمامًا، وكانت تقمع اللغة الكردية وتصادر حقوق الكرد الأساسية. لكن من يقول، رغم بعض التغييرات الشكلية، إن جوهر هذه السياسة قد تغيّر؟ تركيا لا تزال كما كانت: دولة تُقاد بتصلب أيديولوجي يأبى الاعتراف بشيء اسمه “القضية الكردية” تحت أي مسمى، إلا كونها “مشكلة إرهاب” يجب اجتثاثها من جذورها! وإذا كانت القضية وحمل الكردي للبندقية – مع تحفظنا على الطريقة التي إستخدم حزب أوجلان بها هذه البندقية – قد وُلدا من رحم القمع، فهل انتهى ذلك القمع يا ترى؟

ومع ذلك، يناشد أوجلان أتباعه بإلقاء السلاح وتفكيك حزب العمال الكردستاني (PKK) دون أن يذكر حتى مَن سيرث السلاح أو التنظيم أو النفوذ السياسي الذي تحقّق عبر عقود من التضحيات وكثير من التحالفات المريبة. ثم، ماذا يقترح بديلاً؟ الذوبان الكامل في الدولة الديمقراطية التركية المتوهمة! فهو يرفض أي إطار قانوني أو سياسي يمكن أن يشكّل أساسًا يبني عليه الكرد مستقبلهم – الاستقلال، الفيدرالية، الحكم الذاتي، بل حتى الحقوق الثقافية. لا شيء من هذه “البدع”، على حد قوله، يتماشى مع رؤيته لـ”المجتمع الديمقراطي”، وهو المجتمع الذي، وفقًا لكلماته، لن يبنيه الكرد بسواعدهم، بل سيشيده نفس مَن اضطهدوهم: دولت باهتشلي، رجب طيب أردوغان، وربما هو نفسه، إن مُنح الفرصة.

لكن، ما الضمان بأن تركيا ستخطو حتى خطوة واحدة نحو الاعتراف بالكرد، فضلًا عن انتهاج طريق الإصلاح لمنظومة ما انفكت تنزع أكثر نحو الشمولية؟ المشهد السياسي التركي، بكل تنويعات طيفه الأيديولوجي والسياسي، لا يزال ثابتًا في إنكار أي “قضية كردية” خارج حدود الخطاب الأمني لمكافحة الإرهاب. تركيا الرسمية ترفض الاعتراف بالكرد كشعب يعيش على أرضه، وتحصر النضال الكردي من أجل الكرامة في خانة “المشكلة الأمنية” التي يجب “حلها”. ثم، مَن هو الضامن لهذا العصر الجديد المزعوم؟ أوجلان نفسه، السجين منذ ربع قرن في جزيرة نائية، القابع تمامًا تحت رحمة الدولة التي يسعى الآن لاسترضائها بأي ثمن؟

سواء أكانت دعوة أوجلان نتيجة يأس أو خطأ استراتيجي، فهي ليست سوى صدى لسياسات أنقرة المعروفة جيدًا: إسكات الكرد، محو قضيتهم، وإغلاق نعش النضال الذي صاغته أجيال وكان ثمنه معاناة لا توصف وكثير من الدماء والدموع. لكن التاريخ لا يمكن كتابته بهذه السهولة. كل محاولة سابقة للقضاء على التحفّز الكردي نحو الحرية باءت بالفشل، لأن شعبًا ذاق مرارة النفي والمجازر والغدر لن يختفي لأن شخصًا واحدًا يريد ذلك – حتى لو كان هذا الشخص أوجلان نفسه.

لن تكون دعوة أوجلان الخاتمة، ولن تُطفئ تطلعات شعب تحمّل أكثر مما يمكن تصوّره. بل ستشكّل، على الأرجح، الفصل الأخير في مسيرته السياسية المثيرة للجدل – نهاية مأساوية ومحزنة لزعيم آمن أتباعه بثبات يلامس حدود اليقين بأنه سيجلب لهم الحرية، وانتهى به المطاف بأن يساوم عليهم من أجل استرداد حريته هو.

28 شباط 2025

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي في السنوات الأخيرة، بات من الصعب تجاهل التحوّل المتسارع في نبرة الخطاب العام حول العالم . فالعنصرية والكراهية والتحريض عليهما لم تعودا مجرّد ظواهر هامشية تتسلل من أطراف المجتمع، بل بدأت تتحول، في أكثر الدول ديمقراطية ولم يعد ينحصر في دول الشرق الأوسط ( سوريا . لبنان – العراق – تركيا – ايران وو .. نموذجاً ) وحدها…

ياسر بادلي ليس اختيارُ الرئيس العراقيّ السابق، برهم صالح، مفوّضاً سامياً لشؤون اللاجئين حدثاً عابراً يمرّ على أطراف الأخبار؛ بل هو لحظةٌ ينهضُ فيها تاريخُ شعبٍ كامل ليشهد أن الأمم التي صُنعت من الألم تستطيع أن تكتب للإنسانيّة فصلاً جديداً من الرجاء. فالمسألة ليست منصباً جديداً فحسب… إنه اعترافٌ عالميّ بأنّ الكورد، الذين حملوا قروناً من الاضطهاد والتهجير، ما زالوا…

المحامي عبدالرحمن محمد   تتواصل فصول المسرحية التركية وسياساتها القذرة في الانكار والنفي للوجود التاريخي للشعب الكوردي على ارضه كوردستان، ومحاولاتها المستمرة لالغاء ومحو كلمتي كورد وكوردستان بوصفهما عنوانا للهوية القومية الكوردية والوطنية الكوردستانية من القاموس السياسي والحقوقي والجغرافي الدولي، سواء على جغرافيا كوردستان او على مستوى العالم. تارة يتم ذلك بحجة وذريعة الدين (الاسلام)، وتارة اخرى باسم الاندماج والاخوة،…

  إبراهيم اليوسف وصلتني صباح اليوم رسالة من شاعرة سورية قالت فيها إنها طالما رأتني وطنياً لكنها تجدني أخرج عن ذلك، أحياناً. رددت عليها: صديقتي، وما الذي بدر مني بما يجعلك ترين وطنيتي منقوصة؟ قالت: أنت من أوائل الناس الذين وقفوا ضد ظلم نظام البعث والأسد. قلت لها: ألا ترينني الآن أقف أيضاً ضد ظلم السلطة المفروضة- إقليمياً ودولياً لا…