د. عبدالحكيم بشار
يخطأ من يظن بأن أمريكا هي فقط دولة المؤسسات وأن الأفراد لا دور لهم، أو أن الدولة العميقة وحدها من تدير كل الأمور في ذلك البلد، أو القول : إن أيَّ رئيس هو مجرد موظَّف كبير في البيت الأبيض، وأن السياسة الأمريكية تُرسم في مكان آخر في أمريكا غير المكان الذي يُقيم فيه الرئيس طوال سنوات حكمه، وبأن السياسة الخارجية لاتتغير كثيرا سوى في ترتيب الأولويات وآليات التنفيذ وفق مقتضيات المصلحة الأمريكية، وذلك باعتبار أن الرئيس الأمريكي يملك صلاحيات واسعة، كما أن كاريزما الرئيس يمنحه دوراً إضافياً ، لذلك فإن عودة السيد ترامب إلى البيت الأبيض كثاني رئيس في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية يفوز بالرئاسة و بدورتين غير متتاليتين، ستحمل العديد من التغييرات العميقة في مختلف الملفات على الساحة الدولية، إضافةً إلى تلبية مطالب الناخبين المحليين.
ففيما يتعلق بالمسار الدولي سيعمل ترامب القادم بحماس إلى البيت الأبيض على وقف الحرب الروسية الأوكرانية وعقد هدنة أو اتفاق مبدئي بين الطرفين وبالتالي صعوبة ضم أوكرانيا للناتو في فترة رئاسته ان لم تكن مستحيلة، وكذلك سيُحمِّل شركائه في الناتو أعباء مالية أكبر في دعم ميزانية الناتو التي تتحمل أمريكا القسم الأعظم منها، وسيمارس المزيد من الضغوط على الصين لكبح جماح انطلاقته التقنية والاقتصادية القوية التي باتت تشكل خطراً على أمريكا.
أما اقليمياً فمن المرجَّح أن يزيد ترامب من تعاونه مع تركيا كحليف استراتيجي في الناتو ولها موقع جغرافي مهم، وهذا التعاون قد يشمل ملفات متعددة منها ملف اقتصادي صرف، أو تطوير التعاون في مجال التسليح، وكذلك العمل مع تركيا على ملف مكافحة الإرهاب، وفي المقابل سيزيد ممارسة الضغط على إيران بحده الأقصى لمنعها من حيازة السلاح النووي حتى لو اضطر إلى استعمال القوة العسكرية بالتنسيق مع إسرائيل أو بشكلٍ منفرد، هذا إذا لم يجد الرئيس ترامب نفسه في حالة حرب مع إيران فور استلام مهامه في البيت الأبيض في 20 كانون الثاني القادم.
ومن المحتمل أن يلجأ الرئيس الحالي جو بايدن إلى الخيار العسكري مع إيران في نهاية ولايته لخلق واقع جديد أمام الرئيس ترامب، وكذلك مسار التطبيع العربي مع النظام السوري لتقليص النفوذ الإيراني في سوريا وكرغبة من دول الخليج العربي تحديدا” ، كما أن مختلف الميليشيات التابعة لإيران مثل حزب الله في لبنان والحشد الشعبي في العراق والحوثيين في اليمن وحزب العمال الكردستاتي وقيادة قنديل ستكون على قائمة السيد ترامب في معالجة أوضاعهم وتقليص نفوذهم، وقد يفضي به الأمر إلى إنهاء دورهم العسكري بشكلٍ نهائي.
وعلى الصعيد السوري فإن النظام مع مجيئ ترامب يعيش في حالة قلقٍ شديد، فلا هو قادر على الاستمرار في المحور الايراني “المقاوم والممانع” ولا قادر على الانفكاك عن ذلك المحور بسهولة، وأيَّ خطوة غير دقيقة وغير محسوبة قد تكلف رأس النظام فقدان سلطته ، خاصة ان إيران انقذته حتى الآن والنظام غارق في ديون إيران ، فهو بات يمشي في حقل الغام ، بل وقد تكلفه حياته إن أخطأ في حساباته على غرار القادة الذين تم تصفيتهم واحداً تلو الآخر، هذا بالرغم من مؤشرات التعاون مع إسرائيل أمنياً وهو الذي لم يعد خافياً، ولكن النظام ما يزال يمارس دور النعامة، ولعل الخيار الوحيد أمام النظام هو افتعال أزمات وحروب على جبهات داخلية لصرف الأنظار عن وضعه وهذا يتطلب من المعارضة السورية عموما والائتلاف خصوصا تقديم نفسها كبديل انتقالي من خلال تطبيق حوكمة رشيدة في مناطقها والكف عن الانتهاكات وتقديم نموذج مقنع سوريا” ودوليا”.
أما كردياً فلا يُستبعد أن يُنفذ السيد ترامب اتفاقه السابق غير المكتمل مع تركيا، وهو إبعاد “قسد” بأسلحته الثقيلة مسافة 32 كم عن الحدود الجنوبية لتركيا، ومناقشة موضوع الإدارة القائمة وموضوع بقائها من عدمها، وكذلك الأحزاب التي تدور في فلك حزب العمال الكردستاني، ومن هنا تبرز الحاجة إلى المجلس الوطني الكردي وجبهة السلام والحرية والأحزاب الوطنية الأخرى للاستعداد للتطورات القادمة بكل جدية ووفق برنامج عمل مدروس بعيداً عن الارتجالية والبيانات التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وإنما الاستعداد الفعلي لهذا السيناريو.
وفي العراق ومن خلال تحجيم دور إيران، وكذلك تحجيم دور ميليشيات الحشد الشعبي، سينعكس ذلك إيجابياً على العراق عموماً وعلى اقليم كردستان على وجه الخصوص، وعلى مختلف الأحزاب الكردستانية ادراك عمق التطورات المتوقعة والحاجة المتبادلة والضرورة التي تقتضي كما قال السيد الرئيس مسعود بارزاني في كلمته قبيل الانتخابات: وجوب أن يكون هناك حكومة موحدة، وبيشمركة موحدة، وأجهزة أمنية موحدة، وأن تحقيق ذلك من شأنه أن يعود بالفائدة على الإقليم وعلى الأحزاب الكردستانية بنفس القدر،
ووفق هذه المعطيات، فإن التغييرات القادمة قد تمنح الكرد فرصة استثنائية عليهم وجوب استثمارها، ففي تركيا مبادرة السلام التي طرحها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لم يفت أوانها، وفي العراق إذا أُخذ برأي الرئيس مسعود بارزاني وما جاء في كلمته قبيل الانتخابات المحلية كاستراتيجية للحركة الكردستانية سيكون ذلك في مصلحة الإقليم ككل، وإن أحسن المجلس الوطني الكردي قراءة التطورات والتفاعل معها بالشكل المطلوب، فكل ذلك قد يساهم بدفع الكرد وقضيتهم بخطواتٍ واسعة للأمام وممارسة دورهم الإيجابي بشكلٍ متقدم وديمقراطي في المنطقة.
المرحلة مفصلية والاحداث ستكون متسارعة وكل الاحتمالات مفتوحة ، ويتطلب منا كمجلس وطني كردي رص الصفوف والعمل بشكل مؤسساتي والتفاعل مع الفعاليات المجتمعية لتكون تعبيرا صادقا” عن تطلعاتها واستحقاقات المرحلة .