عــودة عفــريـــن إلى الـدولة الســــورية واستـــحقاقات القـــانون الـدولـــي

عبدالرحمن كلو
على مدارِ السنواتِ السابِقةِ، وفي مرحلةِ النظامِ السابِقِ، كان العديدُ من الوطنيينَ والشرفاءِ الكوردِ من خارجِ نطاقِ منظومةِ حزبِ العمالِ الكوردستانيِّ (ب ك ك) ومن خارجِ دائرةِ المجلسِ الوطنيِّ الكورديِّ، يُطالبونَ بحمايةٍ دوليةٍ لعفرينَ والمناطقِ الأخرى التي تخضعُ للاحتلالِ التركيِّ.
هذهِ المطالبُ جاءتْ كردِّ فعلٍ على ما كان يجري في تلكَ المناطقِ من ممارساتٍ إرهابيةٍ تهدفُ إلى التغييرِ الديموغرافيِّ، مستهدفةً جغرافيا الدولةِ السوريةِ وشعبَها أولًا، ومن ثُمَّ الجغرافيا البشريةَ والسياسيةَ الكورديةَ في غربيِّ كوردستانَ. ومع غيابِ القُدرةِ الذاتيةِ على مواجهةِ الاحتلالِ التركيِّ سياسيًا أو عسكريًا، وجدَ هؤلاءِ أنَّ اللجوءَ إلى المحافلِ الدوليةِ والتظاهرَ في الساحاتِ وأمامَ مُمثلياتِ ومقراتِ الأممِ المتحدةِ والدولِ ذاتِ العلاقةِ شكلًا مُمكنًا من أشكالِ الرفضِ والممانعةِ، إذْ كان السبيلَ الوحيدَ لإيصالِ الصوتِ الرافضِ لواقعِ الاحتلالِ.
والاحتلالُ التركيُّ في المناطقِ الكورديةِ ظهرَ بأبشعِ صُورهِ وآلياتِ عملهِ حيثُ اعتمدَ على فصائلَ مسلحةٍ خارجةٍ عن القانونِ لتمارسَ شتى أنواعِ القمعِ والإرهابِ مع غطاءٍ سياسيٍّ وفرهُ المجلسُ الكرديُّ الموالي لأنقرةَ.
لكنَّ اليومَ مع سقوطِ النظامِ السوريِّ، انهارتْ كلُّ الذرائعِ التي اعتمدتْ عليها تركيا لتبريرِ وجودِها في الأراضي السوريةِ. فقد أصبحتْ حكومةُ الاحتلالِ المؤقتةُ في مناطقِ السيطرةِ التركيةِ بلا مبررٍ، إذْ لمن تعملُ هذهِ الحكومةُ، وضدَّ من؟ وبما أنَّ حزبَ العمالِ الكردستانيِّ نفسهُ غيرُ موجودٍ في تلكَ المناطقِ، فإنَّ استمرارَ الاحتلالِ التركيِّ أصبحَ بلا شرعيةٍ ذرائعيةٍ وبلا غطاءٍ يَسترُ عورتَها العاريةَ دومًا.
هنا، وفي هذا التوقيتِ، يأتي دورُ المجتمعِ الدوليِّ، وخاصةً الولاياتِ المتحدةِ وحلفاءَها من الدولِ العربيةِ وفرنسا وإسرائيلَ، لأن تتحملَ مسؤولياتِها السياسيةَ والأخلاقيةَ، مُطالبةً تركيا بالانسحابِ الكاملِ وغيرِ المشروطِ من كافةِ المناطقِ السوريةِ المحتلةِ، بما في ذلك عفرينُ وسري كانيه (رأس العين) وتل أبيض (كري سبي).
فهذهِ الدولةُ تحركتْ بدوافعِ قوميةٍ طورانيةٍ عنصريةٍ لتمزيقِ الجغرافيا البشريةِ للكوردِ في شمالِ سوريا أولًا، ومن ثُمَّ العملُ على تجديدِ مشروعِ الميثاقِ المليِّ التوسعيِّ وإحيائهِ ثانيًا. ولهذا الهدفِ، ومن خلالِ سيطرتِها العسكريةِ والأمنيةِ، قامتْ تركيا بفرضِ مشروعِها التوسعيِّ الممنهجِ في عفرينَ على حسابِ الهويةِ الديموغرافيةِ الكورديةِ. إذْ استثمرتِ الدولةُ التركيةُ مواردَها الرسميةَ والمؤسساتيةَ في دعمِ مشاريعِ التوطينِ غيرِ الشرعيِّ بهدفِ تغييرِ التركيبةِ السكانيةِ، إلى جانبِ استخدامِ ميليشياتٍ مسلحةٍ تعملُ تحتَ غطاءٍ سياسيٍّ لتجنبِ المساءلةِ القانونيةِ. وهذهِ الأعمالُ تتناقضُ بشكلٍ صارخٍ مع القانونِ الدوليِّ الذي ينصُّ على أنَّ الاحتلالَ لا ينقلُ السيادةَ على الأراضيِ المحتلةِ.
لكنَّ الواقعَ السوريَّ اليومَ أمامَ استحقاقاتِ الدولةِ الوطنيةِ بعدَ سقوطِ النظامِ الدكتاتوريِّ. فوفقَ القانونِ الدوليِّ العرفيِّ، عندما ينتهي الاحتلالُ، تعودُ المناطقُ المحتلةُ إلى وضعِها السابقِ، وتُلغى كافةُ القوانينِ والإجراءاتِ التي فرضتها دولةُ الاحتلالِ. وفي حالةِ عفرينَ والمناطقِ الأخرى، يتطلبُ ذلك:
  1. إلغاءُ كلِّ القوانينِ التشريعاتِ غيرِ الشرعيةِ: حيثُ تُلغى كافةُ القوانينِ والإجراءاتِ الإداريةِ التي فرضها الاحتلالُ التركيُّ، بما في ذلك التعديلاتُ الديموغرافيةُ أو الإداريةُ.
  2. استعادةُ السكانِ المُهجرينَ: يجبُ إعادةُ السكانِ الأصليينَ الذينَ هُجّروا قسرًا إلى منازلِهم وأراضيهِم.
  3. إعادةُ الممتلكاتِ المصادرةِ: تُستردُّ كافةُ الممتلكاتِ التي تمَّتْ مصادرتُها بشكلٍ غيرِ قانونيٍّ خلالَ فترةِ الاحتلالِ.
  4. مساءلةُ دولةِ الاحتلالِ: يُحاسبُ الاحتلالُ التركيُّ على انتهاكاتِهِ للقانونِ الدوليِّ، بما في ذلك التغييرُ الديموغرافيُّ واستغلالُ الموار الطبيعية .
  5. عودةُ السيادةِ السوريةِ: تُعادُ السيطرةُ الكاملةُ إلى الدولةِ السوريةِ وفقَ القوانينِ الوطنيةِ السائدةِ قبلَ الاحتلالِ، لضمانِ استقرارِ المنطقةِ وإعادةِ بنائِها.
لذا فمن الضروريِّ أن يضعَ المجتمعُ الدوليُّ آلياتِ عملٍ مُلزمةٍ وفعّالةٍ للضغطِ على تركيا لإنهاءِ احتلالِها للأراضيِ السوريةِ. يجبُ أن تكونَ هذهِ الآلياتُ شاملةً، تبدأُ بتطبيقِ العقوباتِ الاقتصاديةِ، وتصلُ إلى التهديدِ بالمحاكماتِ الدوليةِ في حالِ استمرارِ الانتهاكاتِ. كذلك، هذا إضافةٌ إلى أنَّ عودةَ المناطقِ المحتلةِ إلى الدولةِ السوريةِ يجبُ أن تكونَ مصحوبةً بخطةِ إعادةِ إعمارٍ شاملةٍ، تدعمُها الأممُ المتحدةُ، لضمانِ عودةِ السكانِ وتعافي البنيةِ التحتيةِ التي دمرتها الحربُ وحالةُ الاحتلالِ.
وعليهِ، فإنَّ عودةَ عفرينَ وباقي مناطقِ الاحتلالِ إلى الدولةِ السوريةِ ليستْ فقط مطلبًا شعبيًا وقانونيًا، بل هي استحقاقٌ أخلاقيٌّ وسياسيٌّ يُساهمُ في إعادةِ الاستقرارِ إلى المنطقةِ. يجبُ أن تُترجمَ جهودُ المقاومةِ السياسيةِ والدبلوماسيةِ إلى واقعٍ ملموسٍ يضمنُ حقوقَ سكانِ المنطقةِ، ويُعيدُها إلى جسدِ الدولةِ السوريةِ وفقًا للقوانينِ الدوليةِ، بما يضعُ حدًا للطموحاتِ التوسعيةِ التركيةِ ومشاريعِها القوميويةِ والإمبراطوريةِ الرعناءِ.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

منظمة حقوق الإنسان في عفرين أستُقبل وزير الثقافة في الحكومة الإنتقالية السورية محمد ياسين صالح و الوفد المرافق له في مدينة عفرين ، على أنغام الزرنة و الطبل من قبل أبناء المنطقة إلى جانب بعض من المواطنين العرب القاطنين منذ سنوات في المدينة ، وسط غياب أغلب رؤوساء البلديات و أعضاء منظمات و نشطاء المجتمع المدني و الأكاديميين الكُرد ،…

عزالدين ملا شهدت سوريا خلال العقد الماضي تحولات عميقة قلبت معالم المشهد السياسي والاجتماعي فيها رأساً على عقب، وأدت إلى تفكك بنية الدولة وفقدانها السيطرة على أجزاء واسعة من أراضيها. بعد سقوط النظام الذي حكم البلاد لعقود، توقّع الكثيرون بداية عهد جديد يعمه السلام والاستقرار، لكن سوريا دخلت في دوامة أعمق من الصراع، إذ تعقّدت الأزمة بشكل لم يسبق له…

عبدالرحمن كلو لم يكن مؤتمر قامشلو مجرّد لقاء عابر بين طرفين متخاصمين في الساحة الكوردية، بل كان خطوة نوعية تُلامس أفقًا سياسيًا أوسع بكثير من مجرد “اتفاق ثنائي”. فبرعاية أمريكية وفرنسية، وبإشراف مباشر من الرئيس مسعود البارزاني، تمكّن المؤتمر من جمع طيف متنوع من القوى، لا يقتصر على المجلس الوطني الكوردي أو الإدارة الذاتية، بل شمل شخصيات وطنية مستقلة،…

هولير (ولاتي مه) شفيق جانكير: بمناسبة مرور عشرين عاما على انطلاقة موقع “ولاتي مه”، جرى في كافتيريا “أريزونا” بهولير (أربيل) تكريم الباحث والمحلل السياسي الأستاذ عماد باجلان. وجاء هذا التكريم تقديرا لدور باجلان البارز في الساحة الإعلامية والسياسية، وجهوده المتواصلة في الدفاع عن الحقوق والقضايا العادلة للشعب الكردي، ووقوفه في مواجهة الأصوات الشوفينية والعنصرية التي تحاول إنكار حقوق الكورد أو…