سوريا ما بعد سقوط النظام

محمد صالح شلال

 

مع سقوط نظام بشار الأسد دخلت سوريا مرحلة جديدة مليئة بالتحديات والفرص، فبعد الإعلان عن الحكومة الجديدة وتنصيب قائد قوات العمليات السيد أحمد الشرع رئيساً للدولة السورية الجديدة بات لازماً عليهم إعادة هيكلية الدولة على أسس ديمقراطية تتسع لجميع مكوناتها الاثنية والطائفية، تلعب القوى الإقليمية والدولية دوراً بارزاً في تشكيل المشهد السياسي الجديد ، في وقت تسعى الحركة الكوردية لتأكيد وتثبيت حقوق الكورد المشروعة وضمان دورهم في مستقبل البلاد من خلال مشاركتهم الفعالة في رسم ملامح الدولة الجديدة، ومن هنا تبرز المسؤولية الكبيرة الملقاة على عاتق السلطة الانتقالية الجديدة استناداً إلى إرث النظام السابق من الخراب والدمار وترسيخ ثقافة فكرية طائفية خدمة لمصالحه وتثبيتاً لأركان حكمه على مر أكثر من ست عقود،  لذا لا بد للحكومة السورية الانتقالية أن تضع في سلم أولوياتها العمل على إعادة بناء الثقة بين المكونات السورية المتعددة وتحقيق العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية للحفاظ على السلم الأهلي وعدم تكرار أخطاء الماضي، وبناء دولة القانون والمؤسسات وذلك عن طريق عقد مؤتمر حوار وطني شامل يتم خلاله وبشكل توافقي على شكل الدولة وشكل نظام الحكم، بإقرار دستور مدني يتوافق مع التنوع القومي والطائفي للمكونات السورية المختلفة مبني على احترام حقوق الإنسان بشكل عام، ومن المؤكد الإقرار بأن سوريا دولة متعددة القوميات والأديان والثقافات، والاعتراف بوجود الشعب الكوردي كأحد المكونات الأساسية في البلاد، هذا من جهة وأن تسعى الحكومة الانتقالية من الجهة الأخرى إلى إعادة بناء علاقتها مع المجتمع الدولي  لتأمين الاعتراف بشرعية الدولة الجديدة ونظامها الديمقراطي لضمان الدعم السياسي والاقتصادي، وخاصة من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والدول المؤثرة مثل الولايات المتحدة والدول العربية، كما عليها التعاون مع الدول الإقليمية لبناء علاقات متوازنة معها، مثل تركيا والعراق والأردن وغيرها بما يضمن عدم التدخل في الشؤون الداخلية للبلاد ودعم جهود الإعمار، ولضمان الاستقرار لا بد من التعاون مع دول ذات الشأن لمكافحة التنظيمات الإرهابية وخاصة تنظيم داعش ومنع عودة التطرف، كما عليها العمل على جذب الاستثمارات الأجنبية وإعادة تأهيل البنية التحتية، حيث تحتاج سوريا إلى دعم مالي ضخم لإعادة بناء ما دمره النظام البائد خلال السنوات السابقة والعمل الجاد على تأمين عودة اللاجئين.

بعد عقود من الانقسامات والصراعات، فأن إعادة الثقة بين مختلف المكونات السورية تعد تحدياً أساسياً أمام السلطة الانتقالية وحكومة السيد أحمد الشرع ولتحقيق ذلك لابد من التركيز على ضمان إشراك جميع المكونات في العملية السياسية دون تمييز وإقصاء، والإسراع في تنفيذ الخطوات العملية للانتقال السياسي عبر الانتقال من الحالة الثورية إلى حالة بناء الدولة وذلك من خلال تشكيل لجنة مختصة لإعداد مسودة دستور على أن يضمن الحقوق الثقافية والسياسية لجميع المكونات والتأكيد على أن الجمهورية السورية هي لكل السوريين والتأكيد على مشاركة جميع المكونات من العرب والكورد والآشوريين والسريان والدروز والعلويين والإيزديين وغيرهم والتأكيد على اللامركزية كخيار لحكم أكثر عدالة، وإلغاء جميع القرارات والإجراءات الشوفينية التي تم إقرارها في زمن النظام البائد وإزالة آثارها والاعتراف بالمظالم التاريخية التي تعرضت لها بعض المكونات وخاصة الكورد والعمل على تعويض الضحايا وضمان عدم تكرار الانتهاكات وتعزيز مفهوم المواطنة لكي يشعر جميع السوريين على اختلاف مشاربهم بأنهم جزء من كيان مشترك يحترم تنوعهم الاثني والطائفي، والذهاب إلى مؤتمر حوار وطني شامل يشارك فيه الجميع للتوافق على ما تم ذكره، لقد عمل النظام البائد على مر عقود على بث روح التفرقة والعنصرية البغيضة بين مكونات السورية المتنوعة وذلك لتثبيت دعائم حكمه مما ولد الشعور بعدم الثقة بين غالبية المكونات وليس من السهل أن نعيد تلك الثقة بينها بالشكل السهل، مما يتطلب حالة من الشجاعة والإرادة لإثبات بأن الغد سيكون أفضل للجميع من خلال تثبيت دعائم الحكم الرشيد.

أما عن رؤية الكورد لمستقبل سوريا أستطيع أن أشير إلى الخطوط العريضة التي تدعو إليها الحركة السياسية الكوردية لضمان الشراكة الحقيقية والحفاظ على وحدة البلاد وهي أن تكون سوريا دولة ديمقراطية تعددية لا مركزية، يقر الدستور بوجود الشعب الكوردي، ويدرج حقوقه السياسية والثقافية فيه بما في ذلك التعليم باللغة الكوردية وضمان الاعتراف بالهوية الوطنية، ويجب أن يكون للكورد الحضور الفعال في مؤسسات الدولة المركزية وتوسيع صلاحيات الإدارات المحلية مع الحفاظ على الوحدة السياسية بين المناطق الكوردية (الجزيرة، كوباني وعفرين) ولا بد من مراجعة شكل الوحدات الإدارية وإلغاء المشاريع والقوانين العنصرية التي طبقت بحق الكورد في زمن النظام البائد لغاية التغيير الديمغرافي للمناطق الكوردية وإزالة آثارها وإعادتها إلى ما كانت عليه قبل تطبيق تلك القوانين وتعويض المتضررين الكورد وترسيخ مبادئ الانتماء الوطني بما يضمن عدم تهميش الكورد أو إقصائهم كما كان الحال في العهود السابقة.

لا شك أن الرئيس مسعود بارزاني يتمتع بدور مؤثر في توحيد الصف الكوردي وتعزيز مشاركته في العملية السياسية لما لشخصه الكريم من الدور المؤثر على الساحة الكوردية وكذلك على المستوى الإقليمي والدولي، ولطالما كانت لحكومة إقليم كوردستان وبالأخص لجناب الرئيس مسعود بارزاني دور فاعل في تقريب وجهات النظر بين الكورد السوريين وله في ذلك محطات عديدة حيث كان سباقاً لدعوة أطراف الحركة الكوردية لتوحيد خطابها السياسي وما دعوته الأخيرة واستقباله لقائد قوات قسد وكذلك رئاسة المجلس الوطني الكوردي وحثهم على توحيد الموقف الكوردي وبناء رؤية سياسية موحدة وتشكيل وفد موحد يمثل الكورد، للتوجه إلى دمشق للمشاركة في رسم الخارطة السياسية الجديدة لسوريا والمطالبة بالحقوق المشروعة للشعب الكوردي إلا دليلاً على حرص الرئيس البارزاني على الكورد وحقوقهم، كما أن الرئيس بارزاني يمكن أن يلعب دوراً فاعلاً في فتح قنوات بين الكورد والحكومة الانتقالية بما يسهم في تحقيق شراكة سياسية حقيقية بين أبناء الوطن.

يتطلب تحقيق العدالة الانتقالية وبناء نظام سياسي يحترم التنوع في سوريا الجديدة إلى عوامل عدة منها داخلية وأخرى خارجية، لا بد من تحقيق ذلك أن يكون هناك دعم دولي وذلك من خلال برامج الأمم المتحدة ودول التحالف لتعزيز الحكم الرشيد وبناء مؤسسات الدولة، ولضمان نجاح الانتقال السياسي يمكن الاستفادة من تجارب دول أخرى مثل جنوب أفريقيا والبوسنة والعراق وغيرها من التجارب في العالم وذلك عبر الدعوة للمصالحة الوطنية مع محاسبة من تلطخ أيديهم بجرائم ضد الإنسانية كما يجب تبني نموذج دستوري يعكس التنوع العرقي والطائفي للمجتمع السوري وكما لا يمكن تحقيق الاستقرار دون وجود قضاء مستقل وأن يكون هناك فصل بين السلطات وأن تكون هناك قوانين تحمي حقوق الأفراد والمجموعات المختلفة وباختصار أن يكون الوطن للجميع.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

م. محفوظ رشيد   كي لا نقع في المحظور الذي تدفعنا إليه التقولات والتخيلات والتنظيرات والتكهنات المشوهة والمشوشة والمفتنة، التي تعتبر مواد سريعة الاسترسال وسهلة الاستقبال من خلال وسائل الأعلام و التواصل الاجتماعي الخارجة عن الرقابة والضبط والمحاسبة، والتي يقف خلفها طابور خامس ضخم ومحترف من الأعداء و الدهماء والغوغاء و الأغبياء..، والضحايا دائماً من الأبرياء والشرفاء والبسطاء والأنقياء من…

نبذة عن الكتاب: يسعدني أن أقدم لكم العمل البارز لصديقي العزيز، ريبرهبون، مؤلف كتاب ” نقد السياسة الكوردية (غربي كوردستان أولاً)”. هذا الكتاب هو استكشاف عميق للمشهد السياسي الكردي، يقدم نقداً ورؤية للمستقبل. إنه رحلة فكرية تمزج بين التحليل التاريخي والواقع الحالي، وتبحث في الحلول للتحديات التي يواجهها الشعب الكردي، خاصة في غربي كوردستان (روجافا). يقدم المؤلف تأملات صادقة في…

د. محمود عباس الزيارة المفاجئة التي قام بها أحمد الشرع، رئيس الحكومة السورية الانتقالية، إلى إسطنبول، لم تكن مجرد جولة مجاملة أو لقاء بروتوكولي، بل بدت أقرب إلى استدعاءٍ عاجل لتسلُّم التعليمات. ففي مدينة لم تعد تمثّل مجرد ثقلٍ إقليمي، بل باتت ممرًا جيوسياسيًا للرسائل الأميركية، ومحورًا لتشكيل الخارطة السورية الجديدة، كان الحضور أشبه بجلوس على طاولة مغلقة،…

جليل إبراهيم المندلاوي   في عالمنا الإسلامي، لا شيء يُوحِّدنا كما تفعل الخلافات، فبينما تفشل جهود الوحدة السياسية والاقتصادية، نثبت مرارا وتكرارا أننا نستطيع الاختلاف حتى على المسائل التي يُفترض أن تكون بديهية، وآخر حلقات هذا المسلسل الممتد منذ قرون كان “لغز” عيد الفطر المبارك لهذا العام، أو كما يحلو للبعض تسميته: “حرب الأهلة الكبرى”. فبعد أن أعلن ديوان الوقف…