بوتان زيباري
في صباح تملؤه رائحة البارود وصرخات الأرض المنهكة، تلتقي خيوط السياسة بنسيج الأزمات التي لا تنتهي، بينما تتسلل أيادٍ خفية تعبث بمصائر الشعوب خلف ستار كثيف من البيانات الأممية. يطل جير بيدرسن، المبعوث الأممي إلى سوريا، من نافذة التصريحات، يكرر ذات التحذيرات التي أصبحت أشبه بأصداء تتلاشى في صحراء متعطشة للسلام. كأن مهمته باتت مجرد تسجيل نقاط القلق في دفتر الأمم المتحدة، دون أن يحمل معه بصيص أمل يُطفئ لهيب النزيف السوري المستمر. إنها الأمم المتحدة ذاتها، التي تحولت مع الزمن إلى غطاء هش يكسو عورات توازنات القوى الكبرى؛ الولايات المتحدة وإيران وروسيا وتركيا، حيث لا صوت يعلو فوق صوت المصالح.
تركيا، اللاعب الذي يرقص على حد السيف في الشمال السوري، تتخذ خطواتها بثقة لا تخلو من الطمع السياسي والجغرافي. التدخل التركي لم يكن يومًا إجراءً عابرًا أو مؤقتًا؛ بل يتجه بخطى ثابتة نحو إعادة رسم خريطة النفوذ على حساب جغرافيا سوريا وسيادتها. خلف الشعارات الرنانة عن “حماية وحدة الأراضي السورية” تختبئ طموحات قديمة، تشبه إلى حد بعيد ما حدث للواء إسكندرون. وإذا كانت تركيا صادقة في شعاراتها، فلماذا ل تعيد اللواء السليب إلى أصحابه؟ أم أن التاريخ يعيد نفسه في صيغة جديدة من الهيمنة؟
وفي مقابل هذا المشهد الملتبس، تتماسك قوى الشمال الشرقي السوري في مواجهة العواصف، رافعة علمًا يتسع لخريطة سوريا بأكملها؛ من الجولان إلى إسكندرون. هذه القوات الكوردية، التي وُلدت من رحم فراغ أمني فرضه انسحاب الدولة السورية أمام تمدد تنظيم داعش، لم تكن يومًا حركة انفصالية أو سلطة بديلة عن دمشق. بل هي قوة وُجدت لتملأ فراغًا فرضته الحرب. ومع ذلك، يُتهمون بالانفصال وكأن الدفاع عن الأرض واستقرارها أصبح جرمًا سياسيًا.
إن القوات الكوردية، برغم كل الاتهامات الموجهة إليها، أعلنت مرارًا استعدادها للاندماج في جيش وطني سوري موحَّد، شرط أن يُبنى هذا الجيش على أسس ديمقراطية ومدنية تحفظ كرامة كل المكونات السورية. ذلك ليس مطلبًا ترفيًّا ولا نزوة سياسية؛ بل هو انعكاس لسنوات طويلة من التهميش والاضطهاد، درس تعلمته الأمة الكوردية من تاريخها المليء بالخذلان والوعود المكسورة. فلا سلام دون عدالة، ولا استقرار دون الاعتراف بالحقوق.
الأزمة السورية ليست مجرد لوحة شطرنج تتحرك عليها أحجار السياسة ببرود ودون ضمير؛ إنها جرح مفتوح ينزف كل يوم، ويزداد عمقًا مع كل تصريح أممي بلا فاعلية، وكل تدخل إقليمي مشبوه. في هذا المشهد المعقد، يبقى الشعب السوري وحده، يحمل أعباء هذه المأساة على أكتافه، متشبثًا بأمل قد يأتي مع فجر جديد أو يظل مجرد سراب يلوح في أفق بعيد.
السويد
26.12.2024