طه بوزان عيسى
يدخل الوضع السوري مرحلة جديدة من التعقيد مع تشكيل الحكومة الجديدة تحت سيطرة جبهة النصرة والفصائل المتحالفة معها، في خطوة تُعمّق الأزمة السياسية بدلًا من أن تسهم في حلها. هذا التحول، الذي جاء امتدادًا للإعلان الدستوري المثير للجدل، عزّز مخاوف مختلف المكونات السورية التي تجد نفسها مرة أخرى أمام سلطة إقصائية لا تعكس تنوع المجتمع السوري ولا تراعي تطلعاته. وكما لاقى الإعلان الدستوري رفضًا واسعًا، فإن الحكومة الجديدة تواجه اعتراضات مماثلة، حيث ترى القوى السياسية والاجتماعية المختلفة أنها تعيد إنتاج نموذج مركزي لا يعترف بحقوق المكونات الأخرى، مما يدفع العديد منها إلى التفكير بمستقبلها بعيدًا عن سيطرة دمشق.
الكرد، الذين سعوا طويلًا للحصول على اعتراف سياسي ضمن الدولة السورية، يواجهون اليوم تهديدًا وجوديًا لمشروعهم في شمال وشرق سوريا، حيث تتزايد الضغوط العسكرية والسياسية عليهم، سواء من قبل الحكومة الجديدة أو من قبل تركيا التي ترى في أي كيان كردي تهديدًا مباشرًا لمصالحها. في الجنوب، تعيش السويداء حالة من التوتر المتصاعد، إذ يشعر الدروز أن السلطة الجديدة لا تعترف بخصوصيتهم السياسية والثقافية، مما يعزز لديهم نزعات الحكم الذاتي، وهو ما بدأ ينعكس في الاحتجاجات المستمرة والتحركات السياسية المتزايدة.
أما العلويون، الذين ارتبط مصيرهم تاريخيًا بالنظام في دمشق، فباتوا اليوم أمام واقع مختلف، حيث لم يعد الولاء للسلطة المركزية ضمانًا لحماية مصالحهم، خاصة مع تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في مناطقهم وكذلك الجرائم المروعة التي ارتُكِبت بحقهم في الفترة الأخيرة هذه التحولات أفرزت انقسامات داخل الطائفة بين من يرى ضرورة التمسك بدمشق باعتبارها الخيار الوحيد للحفاظ على الاستقرار، وبين تيارات أخرى بدأت تعيد النظر في العلاقة مع السلطة المركزية، مدركة أن استمرار السياسات الحالية قد يقود إلى مزيد من التهميش والضعف.
لكن رغم هذه النزعات المتزايدة نحو الانفصال عن المركز، فإن هذه المكونات نفسها ليست موحدة داخليًا. ففي المشهد الكردي، تتباين الرؤى بين التيارات القومية المختلفة بشأن كيفية التعامل مع السلطة الجديدة، وما إذا كان ينبغي التفاوض معها أو البحث عن بدائل أخرى، خاصة في ظل الضغوط الدولية والإقليمية المتزايدة. في السويداء، تنقسم المواقف بين من يدعو إلى التصعيد في مواجهة الحكومة الجديدة ومن يفضل الحوار لتأمين مكاسب سياسية واقتصادية. أما داخل الطائفة العلوية، فهناك تيارات بدأت تطالب بإعادة تقييم العلاقة مع دمشق، بينما لا تزال أخرى ترى في بقاء المركز قويًا ضرورة لضمان عدم انزلاق البلاد إلى مزيد من الفوضى.
التدخلات الإقليمية والدولية تزيد المشهد تعقيدًا، حيث تحاول تركيا استغلال الوضع لترسيخ نفوذها في الشمال من ناحية ومن ناحية أخرى لمنع الكرد من تحقيق حلمهم بإقامة حكم ذاتي يضمن حقوقهم القومية، بينما تراقب الولايات المتحدة وروسيا التطورات بحذر، مع تزايد المخاوف من أن يؤدي صعود حكومة تهيمن عليها فصائل متشددة إلى إعادة فتح ملف الإرهاب في سوريا، مما قد يدفع نحو تدخلات دولية جديدة.
في ظل هذا الواقع، يبدو أن سوريا تتجه نحو مزيد من التفكك السياسي، حيث لم يعد الانقسام مجرد صراع بين حكومة ومعارضة، بل بات انقسامًا داخليًا بين مختلف المكونات والتيارات السياسية داخلها. استمرار النهج الإقصائي في إدارة البلاد دون توافق وطني حقيقي قد يسرّع من تحول سوريا إلى كيانات محلية منفصلة، لكل منها توجهاتها الخاصة، مما يعيد رسم خريطة النفوذ في البلاد ويفتح الباب أمام سيناريوهات غير محسوبة العواقب على المدى الطويل.
الوضع السوري اليوم يقف عند مفترق طرق حاسم، حيث يهدد استمرار السياسات الإقصائية بتفتيت البلاد إلى كيانات متناحرة، في ظل انقسامات داخلية وتدخلات إقليمية ودولية متزايدة. إذا استمرت هذه الديناميكيات دون حلول سياسية شاملة، فإن سوريا قد تتجه نحو مزيد من عدم الاستقرار، مما يعمّق الأزمة الإنسانية والاقتصادية التي يعاني منها الشعب السوري منذ أكثر من عقد.
لإنقاذ البلاد من هذا المصير، لا بد من تبني نهج جديد قائم على الحوار الوطني الحقيقي، بمشاركة جميع المكونات السورية دون استثناء. أي عملية سياسية ناجحة يجب أن تستند إلى مبادئ الشراكة المتوازنة، وضمان الحقوق الثقافية والسياسية لكل الأطراف، بما في ذلك الكرد والدروز والمسيحيون والعلويون وغيرهم، بحيث يشعر الجميع بأنهم جزء من مستقبل سوريا، وليسوا مجرد متفرجين أو ضحايا لسياسات الأمر الواقع.
على المستوى الدولي، ينبغي أن يتحول التركيز من دعم الفصائل المتناحرة إلى الضغط من أجل تسوية سياسية عادلة، تضمن استقرار البلاد وتمنع استخدامها كساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية. كما أن أي حل مستدام يجب أن يتضمن رؤية واضحة لإعادة الإعمار، وتحسين الأوضاع الاقتصادية، وإيجاد آليات فعالة لمحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات، بما يضمن تحقيق العدالة ويعيد ثقة السوريين في أي سلطة جديدة.
المخرج الوحيد من الأزمة الحالية يكمن في حل سياسي توافقي، يقطع الطريق أمام استمرار الصراع ويعيد بناء دولة تحترم التعددية وتضمن الاستقرار. دون ذلك، ستظل سوريا عالقة في دوامة من الفوضى والتدخلات الخارجية، مما يهدد مستقبل أجيالها القادمة.
٠٣/٠٤/٢٠٢٥