سوريا اليوم: صراع المصير ، وأفق الحل الغائب

عبدالجبار حبيب

 

تمهيد: سوريا بين الفوضى وإعادة إنتاج المأساة

عندما يجتمع مئات المقاتلين في ساحة الأمويين بدمشق، معلنين استعدادهم لخوض معركة جديدة، يبدو المشهد وكأنه استعادة للصور القديمة من بداية الحرب السورية، لكن بوجوه مختلفة وأجندات متغيرة. لم يعد الجيش السوري في الصورة كما كان سابقاً، ولم تعد الحرب تدور بين نظام ومعارضة بالمعنى التقليدي، بل أصبحت صراعاً بين قوى تتنازع السلطة في ظل انهيار الدولة المركزية.

السؤال الجوهري: لماذا لم تواجه “فلول النظام” هذا الزحف العسكري عندما اجتاحت الجماعات المسلحة حلب وحماة وحمص وصولاً إلى دمشق؟ ولماذا باتت المواجهة حتمية الآن في الساحل السوري؟ للإجابة، لا بد من العودة إلى جذور الصراع وتحليل مستجداته في سياق تاريخي أوسع.

الساحل السوري: بين إرث النظام والمعركة المؤجلة

لطالما اعتُبر الساحل السوري الحصن الأخير للنظام السابق، والملاذ الذي لم يخترقه المسلحون في ذروة قوتهم. لكن مع تغيّر موازين القوى، وتلاشي السلطة المركزية، أصبح هذا المعقل نفسه موضع اختبار حقيقي: هل يستطيع البقاء ككيان مستقل بموازاة دمشق، أم أنه سيسقط في يد التحالفات الجديدة؟

المعادلة هنا معقدة: فبينما تدّعي الجماعات المسيطرة في دمشق أنها تخوض حرباً ضد بقايا النظام، فإن من يقاتل في الساحل ليسوا مجرد “فلول” بالمعنى التقليدي، بل فئات واسعة من المجتمع السوري رأت أن البديل الذي يحكم العاصمة لا يمثلها، فحملت السلاح دفاعاً عن ذاتها. هذا يعيد إلى الأذهان ما حدث في أفغانستان بعد انسحاب السوفييت، حينما دخلت الفصائل الإسلامية المتشددة في صراع دموي فيما بينها، وأدى ذلك إلى صعود “طالبان” التي فرضت رؤيتها الخاصة بالقوة.

سوريا بلا جيش.. من يحسم المعركة؟

المثير للقلق أن الدولة السورية تبدو اليوم بلا جيش فعلي قادر على فرض الاستقرار. بدلًا من مؤسسة عسكرية موحدة، هناك جماعات مسلحة ترفع شعارات متناقضة لكنها تتفق على رفض أي مشروع جامع. والمفارقة أن هذه الجماعات لم تجد مقاومة تذكر عندما زحفت من الشمال إلى الوسط ثم إلى دمشق، لكنها الآن تواجه مقاومة شرسة في الساحل، مما يعكس اختلافاً جوهرياً في طبيعة المعركة بين المركز والأطراف.

هذا يعيد إلى الأذهان ما جرى في لبنان خلال الحرب الأهلية (1975-1990)، حين انقسمت البلاد إلى كانتونات عسكرية تحكمها الميليشيات، وتحولت بيروت إلى ساحة صراع دائم بين الفصائل المختلفة، كل منها تدّعي أنها الممثل الشرعي للدولة، بينما كانت الحقيقة أن الدولة نفسها لم تعد قائمة إلا بالاسم.

العدالة الانتقالية أم العدالة الانتقائية؟

في ظل هذا الواقع، تطرح السلطة الجديدة في دمشق شعار “تصفية الفلول”، وهو ما يذكّر بما حدث بعد سقوط أنظمة سابقة، مثل اجتثاث البعث في العراق بعد 2003، حيث أدى استبعاد كل من له صلة بالنظام السابق إلى خلق فراغ أمني استغلته الجماعات المتطرفة، مما قاد البلاد إلى الفوضى بدل العدالة.

العدالة الحقيقية لا تعني تصفية الحسابات، بل محاسبة المسؤولين عن الجرائم وفق معايير قانونية واضحة. يقول الفيلسوف الفرنسي فولتير: “من السهل قتل الشرير، لكن من الصعب قتل الشر نفسه.” فإقصاء الخصوم لا يبني دولة، بل يعيد إنتاج الصراع في دورات دموية متكررة.

أفق الحل: اللامركزية بين الحقيقة والوهم

وسط هذا التمزق، يطرح البعض اللامركزية كحل لإنقاذ سوريا من التفكك الكامل. المشكلة ليست في الفكرة ذاتها، بل في التصورات المشوهة حولها.

اللامركزية لا تعني التقسيم، كما يروّج البعض، بل تعني توزيع الصلاحيات بين الأقاليم بحيث تحكم نفسها ذاتياً ضمن إطار الدولة الموحدة. هذا النموذج نجح في دول مثل ألمانيا الاتحادية وسويسرا، حيث استطاعت الأقاليم المختلفة التعايش ضمن نظام سياسي يضمن الحقوق للجميع.

لكن في سوريا، تواجه اللامركزية عقبتين أساسيتين:

  1. رفض السلطة المركزية لأي تغيير جوهري، خوفاً من فقدان السيطرة.
  2. عدم ثقة الأطراف ببعضها البعض، مما يجعل أي اتفاق هشاً وعرضة للانهيار عند أول اختبار.

العقوبات الاقتصادية.. الموت البطيء لسوريا

في خضم هذا الصراع، يعيش الشعب السوري تحت وطأة عقوبات اقتصادية خانقة، وحرمان الموظفين من رواتبهم، وانهيار سعر الليرة، مما يجعل الحياة اليومية كابوساً مستمراً.

التاريخ يثبت أن العقوبات نادراً ما أسقطت الأنظمة، لكنها دمرت المجتمعات. يقول المؤرخ الأمريكي هوارد زين: “الحصار لا يقتل الطغاة، بل يقتل الشعوب.” وهذا ما يحدث في سوريا اليوم، حيث يدفع المواطن العادي ثمن الصراعات السياسية، بينما يبقى المتحكمون في المشهد بمنأى عن الجوع والفقر.

إلى أين تتجه سوريا؟

المشهد السوري اليوم يشبه رقعة شطرنج دموية، حيث يتحرك اللاعبون وفق مصالحهم الخاصة، بينما الضحية الوحيدة هي الشعب. الاختيار المطروح أمام السوريين ليس بين “نظام” و”معارضة”، بل بين استمرار الحرب أو إيجاد صيغة جديدة للعيش المشترك.

لكن السؤال الذي يبقى معلقاً: هل يملك السوريون إرادة تجاوز الماضي، أم أن التاريخ سيعيد نفسه بشكل أكثر مأساوية؟

الأيام القادمة ستكشف الإجابة، لكن المؤشرات الحالية لا تبعث على التفاؤل.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…