سايكولوجيا الجلاد: في استقراء نفسية مرتكبي التعذيب والجرائم ضد الإنسانية

إبراهيم اليوسف

 

إلى ضحايا سجن صيدنايا وأشباهه ومرادفاته وسلالاته

 

تشكل دراسة نفسية الجلاد نافذة على الدوافع العميقة التي تدفع الأفراد إلى ممارسة التعذيب وارتكاب الجرائم ضد الإنسانية.  إذ لا تهدف هذه الدراسة فقط إلى فهم الأسباب الكامنة وراء تلك الأفعال، بل تسلط الضوء على الآليات التي تجعل العنف الممنهج جزءًا من أدوات السيطرة والهيمنة، كما حدث في العديد من الأنظمة القمعية حول العالم، بما في ذلك النظام السوري.

الجلاد ليس بالضرورة فردًا “منحرفًا” أو “استثنائيًا” بطبيعته. بل قد يكون إنسانًا عاديًا وقع تحت تأثير بيئة تُحوّله إلى أداة قمعية. فهم تكوين شخصية الجلاد يتطلب دراسة العوامل الاجتماعية، النفسية، والسلوكية التي تؤثر فيه. فالقسوة غالبًا ما تتشكل نتيجة لتأثير البيئة الاجتماعية المحيطة. في سياقات مغلقة كالسجون أو الوحدات العسكرية، يصبح التعذيب جزءًا من “السلوك المعتاد”. الفرد يتعلم تسويغ أفعاله من خلال الاندماج في قيم المجموعة. العمل ضمن أجهزة أمنية أو عسكرية يمنح شعورًا بالسلطة والتحكم. يرى الجلاد نفسه مجرد منفذ للتعليمات، مما يخفف عنه عبء المسؤولية الشخصية عن أفعاله.

وإنه مع تكرار ممارسات العنف، يتضاءل الشعور بالصدمة. يبدأ الجلاد بأفعال يراها غير مألوفة أو مزعجة في البداية، ولكنه مع مرور الوقت يطور درجة من اللامبالاة تجاه معاناة الآخرين. الدعم من الزملاء أو الإشادة من القادة يُحفزه على الاستمرار، حيث يُنظر إلى التعذيب كأداء للواجب أو “إنجاز” يُكافأ عليه.

تفويض المسؤولية أحد العوامل المركزية التي تُقلل من الشعور بالذنب لدى الجلادين. حين تُصدر الأوامر من مستويات عليا، يرى الجلاد نفسه مجرد أداة تنفيذية، غير مسؤولة عن النتائج. في الأنظمة الشمولية، يُعد القمع ضرورة لحفظ “الأمن القومي”، ما يجعل الانتهاكات جزءًا من واجبات الوظيفة.

التسويغ الأخلاقي يأتي عبر نزع الإنسانية عن الضحايا. يتم تصويرهم كخونة أو أعداء يُهددون الأمن، ما يُسهل ممارسة العنف ضدهم دون شعور بالذنب. يقتنع الجلاد بأن أفعاله القاسية تخدم هدفًا ساميًا، كحماية الدولة أو استقرار النظام، مما يسمح له بتجاهل الآثار الكارثية لتصرفاته.الكثير من الجلادين يعيشون إحساسًا بالعجز ضمن منظومة قمعية أكبر. فالخوف من العقاب أو فقدان الامتيازات يجعلهم عاجزين عن التمرد على الأوامر، حتى وإن كانوا يدركون البُعد الأخلاقي لتصرفاتهم. هذا الشعور يدفعهم إلى الانصياع، ما يعمق دورهم في سلسلة القمع ورغم القسوة الظاهرة، يعاني الجلادون من اضطرابات نفسية طويلة الأمد. الشعور بالذنب والندم يُلاحقهم، مما يؤدي إلى اضطراب ما بعد الصدمة، القلق، والاكتئاب. البعض يفقد الثقة بالنفس ويعيش حياة مليئة بالصراعات الداخلية، حيث تتحول ذكرياتهم إلى أعباء يصعب التخلص منها.

إن فهم سايكولوجيا الجلاد يكشف كيف تسهم العوامل النفسية، الاجتماعية، والسياسية في تشكيل أفراد يتحولون إلى أدوات للعنف الممنهج. التعذيب ليس مجرد فعل فردي، بل هو نتاج شبكة معقدة من التأثيرات التي تُفقد الإنسان إنسانيته. معالجة هذه الظاهرة تتطلب بناء مجتمعات تتبنى قيم العدالة والمساواة، وترفض جميع أشكال القمع، مع التركيز على إعادة تأهيل الضحايا والجلادين على حد سواء.

 

سلوكيات الجلادين

تتعدد أساليب الجلادين في تنفيذ التعذيب، وتشمل استخدام أدوات وطرق متباينة تهدف إلى إلحاق أقصى درجات الألم الجسدي والنفسي بالضحايا. أدوات التعذيب قد تتضمن: الهراوات، الصواعق الكهربائية، القيود الحديدية، وأحيانًا آلات مخصصة لإلحاق الأذى الجسدي. أما طرق التعذيب فتتنوع بين الضرب المبرح، الحرمان من النوم، الصدمات الكهربائية، الإيهام بالغرق، والتعليق من الأطراف لفترات طويلة. غالبًا ما يتم استخدام هذه الأساليب بشكل منهجي بهدف تدمير نفسية الضحية، وكسر إرادتها، أو إجبارها على الاعتراف.

صورة الجلاد تتشكل في أعين الضحية وأسرته والمجتمع بطرق متناقضة؛ فهو يُرى كرمز للخوف والقسوة والظلم. الضحية غالبًا ما ينظر إليه كوحش تجرد من الإنسانية، بينما تعاني أسرته من مشاعر مختلطة بين الخوف والاحتقار. أما المجتمع، فقد ينقسم بين من يراه أداة للنظام لا أكثر، ومن يعتبره شريكًا مباشرًا في القمع. هذه الصورة تسهم في تعميق العزلة الاجتماعية للجلاد وعائلته، مما قد يؤدي إلى شعورهم بالنبذ أو حتى الاستفادة من الحماية التي يوفرها النظام.

تصبح القسوة أقل صدمة مع التكرار. يبدأ الجلاد بتصرفات قد يراها غريبة في البداية، لكنه مع مرور الوقت يتأقلم مع القسوة ويصبح غير مكترث بآلام الضحايا. الإشادة من قبل الزملاء والقادة تعزز ثقة الجلاد بنفسه. يصبح التعذيب “إنجازًا” يُكافأ عليه، ما يدفعه إلى الاستمرار في هذا النهج. إذ يلعب مفهوم “تفويض المسؤولية” دورًا مركزيًا في تخفيف الشعور بالذنب لدى الجلادين. عندما تُصدر الأوامر من قيادات عليا، يُصبح الجلاد مجرد أداة في يد النظام. يشعر بأنه غير مسؤول عن أفعاله، وأن اللوم يقع على المؤسسة التي يتبعها. في الأنظمة الاستبدادية، يُعتبر القمع جزءًا من “الحفاظ على الأمن القومي”، مما يُبرر الانتهاكات ويُسهل ارتكابها.

أجل. إن لتسويغ الأخلاقي هو أداة رئيسة لتجنب الشعور بالذنب. وتتجلى هذه الظاهرة عبر تصوير الضحايا كأعداء أو خونة، ما يُزيل عنهم صفة الإنسانية. إذ يتم التعامل معهم على أنهم تهديد يجب القضاء عليه. حيث يعتقد الجلاد أن أفعاله، مهما كانت وحشية فإنها تخدم غاية نبيلة مثل حماية الوطن أو الحفاظ على النظام. هذا الاعتقاد يسمح له بالتغاضي عن النتائج المدمرة لتصرفاته.

وإنه في كثير من الأحيان، يشعر الجلاد بأنه عالق في نظام أكبر منه. وأن الخوف من العقاب أو فقدان الامتيازات يجعله غير قادر على مقاومة الأوامر. هذا العجز يُسهم في استمراره بتنفيذ الأفعال القمعية رغم إدراكه لخطورتها الأخلاقية.

وعلى الرغم من القسوة الظاهرة، يعاني العديد من الجلادين من اضطرابات نفسية على المدى البعيد. الشعور بالذنب والندم يُلاحقهم، ما يؤدي إلى ظهور أعراض اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، والقلق، والاكتئاب. في بعض الحالات، قد يفقد الجلاد ثقته بنفسه ويعيش حياة مليئة بالتوتر الداخلي.

فهم سايكولوجيا الجلاد يُبرز الدور الذي تلعبه العوامل النفسية والاجتماعية والسياسية في تحويل الأفراد العاديين إلى أدوات للعنف. التعذيب ليس فعلًا فرديًا معزولًا، بل هو نتيجة لنظام معقد من التأثيرات التي تُجرد الإنسان من إنسانيته. معالجة هذه الظاهرة تتطلب بناء مجتمعات ترفض القمع بجميع أشكاله، وتعزز من قيم العدالة والكرامة الإنسانية.

 

*خلاصات ونتاج صورة انطباعية و مصادر  ومراجع أنترنيتية متعددة!

المصطلحات الواردة مستخدمة  من قبل دراسات ومختصين-على نحو مسبق-  ولا ابتكار فيها من قبل الكاتب

 

 يتبع:  في واقع السجون في سوريا

ومن ثم إضاءة على واقع نشوء المنظمات الإرهابية

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف   يُعدّ سجن صيدنايا من أكثر السجون المشهورة بسمعتها السيئة في سوريا. يمثل السجن نموذجًا مرعبًا للعنف الممنهج الذي يمارسه النظام السوري بحق المعتقلين، سواء كانوا سياسيين أو مدنيين عاديين. من خلال تصميمه المعماري القاسي، يكشف السجن عن هدفه الأساسي: القمع والتعذيب بعيدًا عن أنظار العالم. وقد تم إنشاء سجن صيدنايا -كما أشرنا- في سنة 1987 في…

اعداد وتقديم : عنايت ديكو   لقد عبّر الشعب الكوردي عن فرحته الكبيرة بسقوط النظام الديكتاتوري في دمشق، تماماً كما فعلت سائر الشعوب والملل والمذاهب والطوائف الأخرى في سوريا. فالكورد وبسسب مواقفهم المبدئية كانوا أول من اكتووا بنار الارهاب وعانوا من ظلم البعث والعنصرية والاضطهاد والسجون والمعتقلات. هنا وفي بحر الارتدادات والمواقف والآراء والتناقضات التي رافقت هذا الانهيار السريع…

إبراهيم محمود   يمثّل النشيد الوطني لأي دولة علامة فارقة لهويتها الاجتماعية والسياسية، وواجهتها في الخارج. بناء عليه، يتم اختيار الكلمات ذات الدلالة، وهي تُردَّد مع الموسيقا أو دونها هنا وهناك. ولقد استغربت كل الاستغراب، حين سمعت بالنشيد ” الوطني ” السوري الجديد، وهو من كلمات الشاعر” المنبجي- الحلبي : عمر أبو ريشة 1910-1990 “: في سبيل المجد والأوطان،…

إلى الشهيد مشعل التمو وأسرى الرأي في سجون الطاغية الأسد توطئة: تتحول السجون في أزمنة القمع والظلم، إلى أدوات لتعذيب البشر بشكل وحشي، وتحطم كل أمل في الحرية والعدالة. سجون سوريا، وعلى رأسها سجن صيدنايا، أصبحت تمثل أكثر من مجرد أماكن للاحتجاز؛ إنها محارق بشرية يطحن فيها المعتقلون بأبشع أساليب التعذيب الجسدي والنفسي. منذ وصول حافظ الأسد إلى السلطة…