حين يخسر الحراك الثقافي الكوردي أحد أبنائه

د. محمود عباس

 

في زمنٍ تشتد فيه الحاجة إلى الكلمة الحرة، والفكر المُلهم، نواجه ما يشبه الفقد الثقافي العميق، حين يغيب أحد الذين حملوا في يومٍ ما عبء الجمال والشعر، ومشقة النقد النزيه، إنها لحظة صامتة وموجعة، لا لأن أحدًا رحل بالجسد، بل لأن صوتًا كان يمكن له أن يثري حياتنا الفكرية انسحب إلى متاهات لا تشبهه.

نخسر أحيانًا شعراءنا، لا بالموت، بل بالتحوّل، حين يتحوّل القلم من أداة للخلق إلى وسيلة للتفريغ، وحين يُهجر الشعر بوصفه مرآةً للذات إلى حلبة للصراخ، فذاك فَقْدٌ يصعب تعويضه.

من المؤسف أن الساحة الأدبية الكوردية، التي تعاني أصلاً من قلة الأصوات الناضجة، تفقد بمرور الوقت من كانوا يشكّلون إضافات فكرية وأدبية حقيقية، وإنها لمصيبة، لا تخص شخصًا بعينه، بل تطال حركة بأكملها، حين يغيب أحد أبنائها البارزين، بعدما كان يومًا ما يشكل أحد أركانها، بكتاباته النقدية وتحليلاته الشعرية التي استوقفتنا، وجعلتنا نُعيد النظر في إنتاجه الثقافي.

الأسى الحقيقي يكمن في هذا التراجع غير المبرر، لا في صمت الشاعر، والمثقف النابه، بل في صخب لا يشبهه، كأننا نرى أمام أعيننا كيف يخسر الحبر نُبله، وكيف تنزاح الكلمات عن طريقها إلى فضاءات لم تكن لها.

نحن لا نرثي شخصًا، بل نرثي غياب دورٍ كان يمكن أن يستمر ويُطوّر، أن يوجّه الساحة ويثري الحوار، خاصة في مرحلة تعيش فيها الأمة الكوردية انكسارات كثيرة، وتحتاج إلى أقلام تُصوّب الاتجاه، لا أن تتوه معه.

الخسارة الأدبية لا تُقاس بعدد القصائد المنشورة، ولا بكمّ المقالات، بل بما تحمله من أثر، وبما تخلقه من وعي. وكان بإمكان من يغيب اليوم عن محرابه الشعري والنقدي، أن يكون أحد أولئك الذين يصوغون وعينا الجمالي، ويحرّكون مياه الفكر الراكدة.

إننا لا نملك رفاهية خسارة مَن يمتلك أدوات الكتابة والفكر، ولا يجوز لنا أن نتعامل مع هذا الغياب وكأنه عابر. فلكل شاعر مكانه، ولكل ناقد ضروريته، ولكل صوت أثره في تكوين الذاكرة الجمعية.

هذه الكلمات ليست رثاءً، بل نداء، نداءٌ إلى الساحة الثقافية الكوردية أن تنتبه إلى من يغيب، وأن تسأل عن سبب الغياب، ونداء إلى كل من عرف الكتابة طريقًا، ألا يتركها قبل أن يقول كلمته الكاملة، المخلصة، القادرة على ترك أثرها.

ما زال في الحرف فسحةُ رجاء، وما زلنا نؤمن أن من غاب يمكن أن يعود، لا ليكون كما كان، بل ليكون أكثر وعيًا بما تعنيه الكلمة، وأكثر إخلاصًا لما حلمنا أن نكونه ذات قصيدة، وذات نقد.

 

د. محمود عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

mamokurda@gmail.com

18/4/2025م

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

منظمة حقوق الإنسان في عفرين أستُقبل وزير الثقافة في الحكومة الإنتقالية السورية محمد ياسين صالح و الوفد المرافق له في مدينة عفرين ، على أنغام الزرنة و الطبل من قبل أبناء المنطقة إلى جانب بعض من المواطنين العرب القاطنين منذ سنوات في المدينة ، وسط غياب أغلب رؤوساء البلديات و أعضاء منظمات و نشطاء المجتمع المدني و الأكاديميين الكُرد ،…

عزالدين ملا شهدت سوريا خلال العقد الماضي تحولات عميقة قلبت معالم المشهد السياسي والاجتماعي فيها رأساً على عقب، وأدت إلى تفكك بنية الدولة وفقدانها السيطرة على أجزاء واسعة من أراضيها. بعد سقوط النظام الذي حكم البلاد لعقود، توقّع الكثيرون بداية عهد جديد يعمه السلام والاستقرار، لكن سوريا دخلت في دوامة أعمق من الصراع، إذ تعقّدت الأزمة بشكل لم يسبق له…

عبدالرحمن كلو لم يكن مؤتمر قامشلو مجرّد لقاء عابر بين طرفين متخاصمين في الساحة الكوردية، بل كان خطوة نوعية تُلامس أفقًا سياسيًا أوسع بكثير من مجرد “اتفاق ثنائي”. فبرعاية أمريكية وفرنسية، وبإشراف مباشر من الرئيس مسعود البارزاني، تمكّن المؤتمر من جمع طيف متنوع من القوى، لا يقتصر على المجلس الوطني الكوردي أو الإدارة الذاتية، بل شمل شخصيات وطنية مستقلة،…

هولير (ولاتي مه) شفيق جانكير: بمناسبة مرور عشرين عاما على انطلاقة موقع “ولاتي مه”، جرى في كافتيريا “أريزونا” بهولير (أربيل) تكريم الباحث والمحلل السياسي الأستاذ عماد باجلان. وجاء هذا التكريم تقديرا لدور باجلان البارز في الساحة الإعلامية والسياسية، وجهوده المتواصلة في الدفاع عن الحقوق والقضايا العادلة للشعب الكردي، ووقوفه في مواجهة الأصوات الشوفينية والعنصرية التي تحاول إنكار حقوق الكورد أو…