بشار الأسد بين خيارات البقاء وأطياف الهزيمة

د. محمود عباس

 

ربما يكون من المبكر إصدار أحكام قطعية بأن النظام السوري على وشك السقوط أو في طور النهاية، فسياسيًا هذا الحكم يبدو غير منطقي حاليًا. ومع ذلك، ما يمكن تأكيده هو أن تركيا تملك الكلمة الفصل في أي تقدم تحققه “هيئة تحرير الشام” أو الفصائل الأخرى المسماة جدلًا بـ “الجيش السوري الحر”، سواء في مناطق النظام أو في عملياتها ضد قوات قسد والإدارة الذاتية. بمعنى آخر، تركيا دفعت بهذه الفصائل المعارضة للسير في مسارين منفصلين: الأول، كرد فعل على رفض بشار الأسد زيارة أردوغان، الذي اعتبرها إهانة شخصية، والثاني، تحقيق هدفها الدائم والمعلن، وهو القضاء على الإدارة الذاتية بأية وسيلة كانت، والحد من الصعود الكوردي بأي وجه كان.

توسع العمليات العسكرية واستيلاء فصائل المعارضة بقيادة “هيئة تحرير الشام” على مساحات واسعة من سوريا، بما في ذلك تجاوز مدينة حلب وحماة والتوجه نحو حمص، ولربما دمشق لاحقًا، يمثل نقطة تحول مصيرية ليس فقط للنظام السوري، بل للطائفة العلوية. هذه الطائفة بدأت تشعر برعب متزايد من الانتصارات التي تحققها “هيئة تحرير الشام”، وهي انتصارات تتقاطع مع مصير الطائفة ذاتها، والتي على الأرجح ستحارب بضراوة دفاعا عن مناطقها بعدما يكونوا قد خسروا السلطة، لأنهم يدركون أن مصيرهم سيكون قاتمًا ومأساويًا إذا استولت المنظمات التكفيرية السنية على محافظتي طرطوس واللاذقية. التصريحات المطمئنة من أي جهة لن تكون كافية لإقناعهم بأنهم سيكونون بأمان.

هذا التطور دفع روسيا إلى تنفيذ ضربات جوية مكثفة لدعم قوات النظام واستعادة السيطرة على المناطق المفقودة. وربما ستتوسع العمليات الروسية انطلاقًا من بُعدين رئيسيين: الأول، حماية الأقلية العلوية التي ترتبط مصالحها بوجود النظام، والثاني، الحفاظ على قواعدها العسكرية في الساحل السوري، ولا سيما على البحر الأبيض المتوسط، ويُعد هذه مسألة استراتيجية بالنسبة لصراعها مع الناتو وأمريكا حصراً.

تجاوز “هيئة تحرير الشام” وبأوامر تركية، للخطوط المتفق عليها مع روسيا يبدو أنه تم بمؤامرة أمريكية-تركية، تهدف إلى تحقيق أهداف مشتركة: أولها القضاء على الميليشيات الإيرانية المتوغلة في سوريا، وثانيها إزالة نظام بشار الأسد. بعد هذه الخطوة، يُتوقع أن يتم التعامل مع “هيئة تحرير الشام” نفسها عبر وسائل متنوعة، قد لا تكون عسكرية فقط.

تصريح المتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، بأن موسكو تعتبر الهجوم على حلب انتهاكًا لسيادة سوريا، كان بمثابة رسالة عتب أو ربما تهديد مبطن لتركيا على خرقها لقرارات أستانة والاتفاقية الأخيرة بينهما، وعلى ما تم إبلاغ بشار الأسد به مسبقًا. ومع ذلك، فإن الحديث اليوم لم يعد عن حلب أو حماة فقط، بل انتقل إلى حمص ودمشق، ومصير النظام، وما يمكن أن تكون عليه سوريا بعد إزالة الدكتاتورية ونظام غارق في الإجرام، واحتمال انتقالها إلى منظومة غارقة في التكفير والإرهاب والراديكالية الإسلاموية.

في هذا السياق، تبدو دعوة روسيا إلى استعادة النظام الدستوري في سوريا في أقرب وقت ممكن، بدون دعم عسكري فعلي، مجرد كلمات فارغة لا تحمل وزنًا سياسيًا حقيقيًا، خاصة وأن موسكو تدرك أن وجودها في سوريا أصبح على المحك. وبعدما كانت روسيا تخطط بالتعاون مع تركيا لطرد القوات الأمريكية من غربي كوردستان، أصبحت هي اليوم الجهة التي تواجه تهديدًا مباشرًا بالجلاء عن سوريا.

من المنظور العسكري، إذا استمر تأثير الجيش الروسي مقتصرًا على الضربات الجوية دون دعم ميداني فعال من الميليشيات الإيرانية، فإن تدريباته العسكرية في شرق البحر المتوسط وإطلاق الصواريخ عالية الدقة ستبدو مجرد استعراض للقوة، لا يكفي لتقديم دعم حقيقي ومستدام لحليفه السوري.

علما أن سوريا بالنسبة لروسيا تمثل الجبهة الثانية بعد أوكرانيا في مواجهتها مع الولايات المتحدة، على الأقل من الناحية السياسية، لذلك من غير المرجح أن تسمح موسكو بانهيار النظام بشكل كامل، على الأقل، ستعمل على الحفاظ على مناطق العلويين ومنع انتصار شامل لهيئة تحرير الشام في المعركة الحالية، فمن المتوقع أن نشهد تدخلًا روسيًا أكثر اتساعًا، يهدف إلى تمكين النظام من استعادة السيطرة على بعض المناطق التي فقدها أو وقف زحف المنظمات المعارضة. أي عمليًا، لا يزال مستقبل بشار الأسد مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالدعم الروسي مع غياب الدعم العسكري الإيراني.

إيران، الحليف الاستراتيجي للنظام السوري، تبدو عاجزة عن تقديم دعم ملموس بنفس الوتيرة التي عهدناها في السنوات الماضية، تصريحات مسؤوليها المتتالية، سواء من القيادة أو من أدواتها الإقليمية، تبقى في الغالب مجرد تهديدات دون أفعال ملموسة. ففي الأول من ديسمبر 2024، قام وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، بزيارة إلى دمشق حيث التقى بالرئيس الأسد ونقل رسالة دعم من القيادة الإيرانية، مؤكدًا استمرار دعم إيران لسوريا وشعبها، مع ذلك، يظهر أن هذا الدعم، مقارنة بالسنوات الماضية، لم يتجاوز الحدود الدبلوماسية إلى الفعل الميداني. هذا التراجع يعكس تراجع قدرة إيران على التأثير بشكل حاسم في الصراع ليس فقط السوري، بل والإقليمي.

فشلت عند إدخال مجموعات من الحشد الشعبي إلى سوريا ليلا، في تحقيق أهدافها الميدانية، ولا تزال قوات أخرى متجمعة على الحدود مع سوريا دون أن تجرؤ على العبور، على الرغم من كل الشعارات التحريضية المذهبية التي تُرفع تحت ذريعة حماية المقدسات الشيعية في سوريا، مثل ضريح السيدة زينب.

على الصعيد السياسي، ظهرت إشارات إلى نقاشات جرت بين الولايات المتحدة والإمارات العربية المتحدة حول إمكانية رفع العقوبات عن النظام السوري إذا نأى بنفسه عن إيران وقطع خطوط نقل الأسلحة إلى حزب الله. هذه النقاشات، كما أشرنا سابقًا، تعكس رغبة أمريكية واضحة في تقليص النفوذ الإيراني داخل سوريا، بما يعيد تشكيل التوازنات الإقليمية وفق المصالح الدولية.

من المتوقع أن تستمر إيران في تقديم الدعم لنظام الأسد عبر القنوات الدبلوماسية والعسكرية، لكنها تواجه إخفاقات واضحة حتى الآن في كلا المجالين، خاصة في الجانب العسكري، لأنها تواجه تحديات كبيرة من الولايات المتحدة وحلفائها، الذين يعملون على تقليص النفوذ الإيراني في المنطقة بشكل متزايد، بالإضافة إلى ذلك، تتعرض المواقع الإيرانية في سوريا لتهديدات إسرائيلية مستمرة، مما يضع قيودًا إضافية على قدرة إيران على تقديم دعم فعال، ما يجعل هذه القدرة محدودة أو شبه معدومة.

فالتساؤلات حول مصير بشار الأسد ونظامه تعكس وضعًا شديد الهشاشة، قد يواجه خطر الانهيار إذا استمرت الضغوط والتحديات الحالية، في هذا السياق، يبرز الصمت التركي الذي يبدو مدعومًا ضمنيًا من الولايات المتحدة، وبالتالي فمصير سوريا كوطن أصبح بالفعل على المحك، ولن يكون هناك مخرج من حالة الانقسام الحالية، وديمومة الاحتلال التركي غير المباشر على شمال شرقه، إلا بفرض نظام فيدرالي بسلطة لا مركزية، يتكون من خمس فيدراليات على الأقل، ليضمن التوازن ويعيد الاستقرار إلى البلاد، وعلى الأغلب هذا ما سيتم عرضه دوليا في القادم من الزمن.

د. محمود عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

mamokurda@gmail.com

6/12/2024م

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

منظمة حقوق الإنسان في عفرين أستُقبل وزير الثقافة في الحكومة الإنتقالية السورية محمد ياسين صالح و الوفد المرافق له في مدينة عفرين ، على أنغام الزرنة و الطبل من قبل أبناء المنطقة إلى جانب بعض من المواطنين العرب القاطنين منذ سنوات في المدينة ، وسط غياب أغلب رؤوساء البلديات و أعضاء منظمات و نشطاء المجتمع المدني و الأكاديميين الكُرد ،…

عزالدين ملا شهدت سوريا خلال العقد الماضي تحولات عميقة قلبت معالم المشهد السياسي والاجتماعي فيها رأساً على عقب، وأدت إلى تفكك بنية الدولة وفقدانها السيطرة على أجزاء واسعة من أراضيها. بعد سقوط النظام الذي حكم البلاد لعقود، توقّع الكثيرون بداية عهد جديد يعمه السلام والاستقرار، لكن سوريا دخلت في دوامة أعمق من الصراع، إذ تعقّدت الأزمة بشكل لم يسبق له…

عبدالرحمن كلو لم يكن مؤتمر قامشلو مجرّد لقاء عابر بين طرفين متخاصمين في الساحة الكوردية، بل كان خطوة نوعية تُلامس أفقًا سياسيًا أوسع بكثير من مجرد “اتفاق ثنائي”. فبرعاية أمريكية وفرنسية، وبإشراف مباشر من الرئيس مسعود البارزاني، تمكّن المؤتمر من جمع طيف متنوع من القوى، لا يقتصر على المجلس الوطني الكوردي أو الإدارة الذاتية، بل شمل شخصيات وطنية مستقلة،…

هولير (ولاتي مه) شفيق جانكير: بمناسبة مرور عشرين عاما على انطلاقة موقع “ولاتي مه”، جرى في كافتيريا “أريزونا” بهولير (أربيل) تكريم الباحث والمحلل السياسي الأستاذ عماد باجلان. وجاء هذا التكريم تقديرا لدور باجلان البارز في الساحة الإعلامية والسياسية، وجهوده المتواصلة في الدفاع عن الحقوق والقضايا العادلة للشعب الكردي، ووقوفه في مواجهة الأصوات الشوفينية والعنصرية التي تحاول إنكار حقوق الكورد أو…