بالمشرمحي: الجاثوم

عبدالحميد جمو
منذ طفولتي وأنا أخاف النوم، أخاف الظلمة والظلال، كل شيء أسود يرعبني. صوت المياه يثير قلقي، الحفر والبنايات العالية، الرجال طوال القامة حالقي الرؤوس بنظارات سوداء يدفعونني للاختباء. ببساطة، كل تراكمات الطفولة بقيت تلاحقني كظل ثقيل.
ما يزيد معاناتي أن الكوابيس لا تفارقني، خصوصًا ذاك الجاثوم الذي يجلس على صدري، يحبس أنفاسي ويفقدني القدرة على الحركة تمامًا. أجد نفسي مجبرًا على سماع حكاياته القذرة والتافهة، وكأنني أستسلم لرغبة غريبة في النجاة من بطشه. أصغي له مرغمًا وأبدي إعجابي ببراعته في السرد، فقط لأحمي نفسي.
منذ عشرين عامًا أو أكثر، يكرر على مسامعي قصة مللت منها، لكن لا حول لي. أنا رجل أحب الشعر، أعشق التغزل بالنساء، وأجد راحتي في الطبيعة التي تهجرني ليلاً وتتركني وحيدًا مع كوابيسي.
ذات ليلة، وبعد يوم مرهق، أخبرت أبنائي ألا يطفئوا الأنوار. أردت أن أنام قليلاً قبل مجيء زائري المعتاد. بالكاد أغمضت عيني، فإذا به يجلس بخوافره على صدري، ضاحكًا تلك الضحكة الرفيعة، ويقول:
“كاد صبري أن ينفد وأنا في انتظارك! اليوم سأقص عليك حكايتي الأخيرة وأرحل عنك.”
رغم صعوبة التنفس وحشرجة صدري، شعرت ببصيص أمل. كنت أتوق لأن يُنهي قصته ويرحل للأبد.
قال الجاثوم:
“اسمع جيدًا، لقد كنت طوال هذه السنوات أحميك من الانخراط فيما لا يعنيك. لا شيء يحدث بالصدفة. الأحداث العالمية مرسومة، مخطط لها، ومحددة التوقيت والموقع. كل شيء محفوظ ضمن ملفات مدروسة بإحكام.
لكل منطقة خطتها، ولكل حدث أبطاله وضحاياه. يستهدفون البشر أولاً بمعتقداتهم وأفكارهم، ثم ينتقلون إلى مواردهم، مُدمرين ما يرونه ضرورياً دون أن يبدو الأمر متعمدًا.
إنهم يبدأون باستهداف العلماء والمثقفين، ثم يُبعدون غير المؤثرين إلى منفى اختياري. وبعد ذلك، يُشعلون فتيل الفتنة، لتتحول المنطقة إلى مسرح دمار وصراع.”
تابع الجاثوم، مستشهداً بأمثلة:
“خذ أفغانستان، مثلاً. الأحداث هناك ليست عشوائية. منذ القرن السابع عشر، سيطرت القوى الكبرى على المضائق والمواقع الاستراتيجية كالدارينيل وجبل طارق. أمريكا وبريطانيا هما وجهان لعملة واحدة، تعملان جنبًا إلى جنب، وتستخدمان وسائل متعددة لتحقيق أهدافهما.
نظرية المؤامرة تُشير إلى نخب عالمية تُسيطر على الحكومات والصناعات والمؤسسات. هذه النخب تُخطط للحروب لأنها مربحة وتُنفذ الأزمات لتحقيق أهدافها. مركزهم الرئيسي يُعتقد أنه تحت مطار دنفر الدولي، حيث توجد مدينة ضخمة مخفية.”
انتقل الحديث إلى الوضع السوري:
“في 18 تموز 2012، وقع انفجار في مقر مكتب الأمن القومي السوري، حيث اجتمعت خلية الأزمة لإدارة الملف الأمني. الانفجار، الذي أدى إلى مقتل عدد من قيادات النظام، كان غامضًا من حيث التنفيذ والتبني، لكنه مثال على الأيدي الخفية التي تُدير الصراعات.”
وفجأة، توقف الجاثوم عن الكلام واختفى . استفقت  منهكا على صيحات تهتف:
“سوريا حرة، سقط الأسد.”

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…