ريزان شيخموس
شهدت سوريا تطورًا تاريخيًا غير مسبوق مع سقوط نظام بشار الأسد، الذي استمر في السلطة لأكثر من خمسة عقود، محكمًا قبضته الحديدية على البلاد. هذا الحدث لم يكن مجرد نهاية لنظام استبدادي بل بداية لتحولات جذرية تحمل في طياتها تحديات وفرصًا كبيرة، على المستويات المحلية والإقليمية والدولية.
شكل سقوط نظام الأسد نقطة تحول في المشهد السوري الداخلي. الفصائل المسلحة، التي كانت تعمل منفردة خلال سنوات الصراع، وجدت نفسها فجأة أمام فرصة لملء الفراغ السياسي. هيئة تحرير الشام، التي قادت الهجوم الأخير على العاصمة دمشق والمدن الكبرى كحلب وحماة وحمص، ظهرت كلاعب رئيسي، حيث سارعت إلى تشكيل حكومة انتقالية لغاية بداية شهر آذار . لكن هذه الحكومة، رغم أنها تمثل خطوة أولى نحو تنظيم المرحلة الانتقالية، تواجه تحديات هائلة تتعلق بشرعيتها وشموليتها.
على الأرض، ورغم الاحتفالات بسقوط النظام، لا تزال سوريا تعيش حالة من الانقسام والتوتر. الكم الهائل من الفصائل المسلحة يعكس واقعًا هشًا، حيث تفتقر البلاد إلى سلطة مركزية قادرة على فرض الأمن والاستقرار. كل فصيل يسعى لتعزيز نفوذه، مما يهدد باندلاع صراعات جديدة ما لم يتم توحيد هذه القوى تحت مظلة وطنية جامعة.
إقليميًا، المشهد السوري بعد سقوط الأسد يعكس تعقيدًا كبيرًا. تركيا، على سبيل المثال، ترى في المرحلة الجديدة فرصة لتعزيز نفوذها في شمال سوريا. دعمها الفصائل المسلحة المدعومة منها و حربها مع قسد يعكس رغبتها في ضمان استمرار تأثيرها في المنطقة. في المقابل، إيران، التي كانت حليفًا رئيسيًا لنظام الأسد، تواجه تحديًا كبيرًا للحفاظ على مصالحها الاستراتيجية في سوريا، خاصة في ظل تقليص نفوذها بعد سقوط النظام.
أما دول الخليج، خاصة قطر والسعودية والإمارات والأردن فتسعى إلى لعب دور في إعادة تشكيل المشهد السوري بما يخدم مصالحها، سواء من خلال دعم بعض القوى السياسية أو المشاركة في جهود إعادة الإعمار. إسرائيل، من جانبها، استغلت الفراغ السياسي والأمني لتكثيف ضرباتها في سوريا، مستهدفة البنى العسكرية التي كانت تديرها إيران والنظام السابق.
دوليًا، القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا تجد نفسها في موقف معقد. الولايات المتحدة تدعو إلى تشكيل حكومة انتقالية شاملة تمثل كافة أطياف الشعب السوري، مع التركيز على ضمان حقوق الأقليات والمكونات المجتمعية. روسيا، التي فقدت حليفها الأساسي في دمشق، تسعى لإعادة التموضع وضمان مصالحها عبر الحوار مع الأطراف الجديدة في السلطة، خاصة هيئة تحرير الشام.
تلعب الدول العربية دورًا محوريًا في هذه المرحلة الحساسة. دعم سوريا لإعادة بناء دولتها واستعادة قرارها الوطني يجب أن يكون أولوية عربية، ليس فقط من الناحية المالية، ولكن من خلال تقديم دعم سياسي لإعادة سوريا إلى محيطها العربي والدولي.
عقد مؤتمر وطني جامع يضم كافة المكونات السورية هو خطوة أساسية في هذه المرحلة. هذا المؤتمر يجب أن يمهد الطريق لصياغة دستور جديد يضمن حقوق كافة السوريين، بما في ذلك الكرد الذين عانوا طويلًا من التهميش والاضطهاد تحت حكم الاسد .
على الرغم من الجهود الدولية، لا تزال هيئة تحرير الشام تواجه انتقادات واسعة بسبب نهجها الأحادي في تشكيل الحكومة الانتقالية. عدم إشراك المعارضة المدنية والسياسية بشكل فعال يعكس مخاوف من إعادة إنتاج نظام استبدادي جديد، لكن هذه المرة بواجهة مختلفة.
الوضع الحالي في سوريا يعكس مشهدًا مليئًا بالتحديات. سقوط النظام فتح الباب أمام مرحلة جديدة، لكنها لا تخلو من المخاطر. الكم الهائل من الفصائل المسلحة، التوترات الإقليمية، والتدخلات الدولية تجعل من الصعب تحقيق استقرار سريع. المرحلة القادمة تتطلب قيادة شجاعة ورؤية وطنية جامعة قادرة على تجاوز الخلافات وإرساء أسس دولة ديمقراطية تمثل جميع السوريين.
في ظل الحديث عن بناء سوريا المستقبل، لا يمكن تجاهل ضرورة إشراك جميع المكونات السورية في إدارة المرحلة الانتقالية. المشاركة السياسية والاقتصادية لكل من العرب، الكرد، والتركمان، وغيرهم من المكونات هي الأساس لضمان دولة ديمقراطية تمثل الجميع.
عدم إشراك هذه المكونات سيؤدي إلى تفاقم التوترات الداخلية ويزيد من تعقيد الوضع. الشرع بحاجة إلى خطوات ملموسة تظهر استعداده لإدماج الجميع في صنع القرار السياسي، سواء من خلال الحوار الوطني أو من خلال تمثيل شامل في الحكومة الانتقالية.
لا شك أن هناك انتقادات واضحة لأداء أحمد الشرع، حيث يبدو أن معظم جهوده منصبة على توجيه الرسائل للخارج في محاولة لإرضاء الأطراف الدولية، بينما يتم تجاهل القضايا الملحة داخل سوريا، مثل الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بالإضافة إلى إهمال قضايا المكونات السورية المتنوعة. إحدى التحديات الرئيسية التي تواجه هيئة تحرير الشام في هذه المرحلة الانتقالية تكمن في بنيتها العقائدية، التي كانت على مدار السنوات الماضية سببًا في رفضها من قبل العديد من القوى الداخلية والخارجية.
الانتقال من فصيل عقائدي مسلح إلى كيان سياسي قادر على قيادة المرحلة الانتقالية يتطلب تغييرات جوهرية على مستوى الفكر والسياسات. هذا التحول لن يكون سهلًا، خاصة في ظل وجود تيارات متشددة داخل الهيئة قد ترى في أي تغيير تهديدًا لهويتها ومبادئها الأساسية. ومع ذلك، فإن التخلي عن البنية العقائدية لا يعني التخلي الكامل عن رؤية الهيئة، بل يتطلب مرونة أكبر وانفتاحًا على مشروع سياسي وطني شامل يستجيب لتطلعات الشعب السوري بجميع مكوناته.
في هذا السياق، يمكن أن يشكل الدور العربي، إلى جانب الدعم الدولي، ركيزة أساسية لتحقيق الاستقرار وإعادة السيادة الوطنية السورية. ومع ذلك، فإن نجاح هذا الدعم يعتمد إلى حد كبير على استعداد القيادة السورية الانتقالية، وعلى رأسها أحمد الشرع، للانفتاح على مشروع ديمقراطي حقيقي يعيد لسوريا مكانتها كدولة لجميع أبنائها.
من الملاحظ أن هيئة تحرير الشام تعتمد حاليًا على سياسة “شرعية الأمر الواقع”، حيث قامت بنقل سلطات حكومة الإنقاذ من إدلب إلى دمشق وتشكيل حكومة انتقالية حتى بداية مارس المقبل. لكن حتى الآن، لم يبادر أحمد الشرع إلى لقاء أي مكونات سياسية سورية أو كتل وطنية، رغم أهمية ذلك لعقد مؤتمر حوار وطني جامع يمكن أن يشكل أساسًا لوحدة وطنية حقيقية.
من الواضح أن سوريا الآن تعيش مرحلة “ما بعد الثورة وما قبل الدولة”. هذه المرحلة تتطلب أكثر من مجرد الوصول إلى السلطة واستقبال ممثلي الدول الكبرى؛ فهي تحتاج إلى جهد كبير لتأسيس دولة متكاملة الأركان. تحقيق هذا الهدف يتطلب الابتعاد عن عقلية الثورة التقليدية، والانتقال إلى عقلية أصحاب الدولة الذين يدركون مسؤولياتهم تجاه بناء وطن يمثل جميع مكوناته دون استثناء أو إقصاء.
القضية الكردية تمثل ملفًا حساسًا في هذه المرحلة. الكرد، الذين عانوا طويلاً من التهميش والقمع تحت حكم نظام الأسد، يرون في سقوطه فرصة تاريخية لتحقيق مكاسب سياسية ودستورية تضمن حقوقهم المشروعة. لكن الواقع على الأرض يشير إلى استمرار التحديات. الفصائل المدعومة من تركيا تواصل استهداف المناطق الكردية، مما يعمق التوترات. الحكومة الانتقالية، بقيادة أحمد الشرع، لم تقدم أي ضمانات واضحة بشأن حقوق الكرد، ما يثير تساؤلات حول التزامها بمبدأ الشمولية.
من جانبها، أبدت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) استعدادها للحوار مع الحكومة الانتقالية والقوى المعارضة الأخرى، بهدف تحقيق تسوية شاملة تضمن حقوق الشعب الكردي. لكن هذه المحاولات تصطدم بمعارضة تركيا وبعض الفصائل المسلحة التي لا تزال ترى في قسد تهديدًا لمصالحها.
المجتمع الدولي يشدد على أهمية إدراج حقوق الكرد في أي دستور جديد لسوريا، كجزء أساسي من بناء دولة ديمقراطية شاملة. لكن تحقيق ذلك يتطلب جهدًا دبلوماسيًا مكثفًا من القيادات الكردية، إضافة إلى تنسيق داخلي قوي لتقديم رؤية موحدة حول المطالب الكردية.
الكرد، كجزء أصيل من النسيج السوري، أمام فرصة تاريخية لتثبيت حقوقهم. المطلوب هو التركيز على الدبلوماسية، التنسيق مع القوى الوطنية والدولية، والعمل على تعزيز الوحدة الداخلية لتقديم رؤية موحدة حول حقوق الشعب الكردي في سوريا الجديدة. سوريا، التي كانت لعقود مسرحًا للظلم والاستبداد، يمكن أن تكون نموذجًا للديمقراطية والعدالة إذا ما تمكنت جميع الأطراف من وضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار.
إحدى القضايا الملحة التي تحتاج إلى معالجة عاجلة هي الصراع المستمر بين الفصائل المدعومة من تركيا وقوات سوريا الديمقراطية (قسد). هذه الصراعات لا تهدد فقط المناطق الكردية بل تمتد تأثيراتها إلى كامل المشهد السوري، مما يعمق الانقسامات ويعرقل بناء سوريا المستقبل.
الحكومة الانتقالية بحاجة إلى موقف واضح وصريح من هذه الصراعات. لا يمكن الاستمرار في سياسة الصمت أو الانحياز لطرف دون آخر، بل يجب العمل على إيجاد حلول تضمن أمن واستقرار الجميع، بما في ذلك الكرد.
قسد، من جانبها، مطالبة بإعادة النظر في سياساتها الإقليمية وفك ارتباطها مع حزب العمال الكردستاني (PKK)، الذي يشكل عائقًا أمام تحقيق شراكات حقيقية مع المجلس الوطني الكردي و القوى الوطنية السورية ومعالجة التوترات مع تركيا ، كما تزيل كل التحديات امام توحيد الموقف الكردي وآليات واضحة لتشكيل وفد كردي موحد في معالجة القضية الكردية في دمشق والمشاركة في مؤتمرات الحوار الوطني وصياغة روية كردية في المستقبل السوري .
في الختام، لا يمكن بناء دولة ديمقراطية مستقرة إلا من خلال حوارات بناءة وجادة تجمع مختلف الأطراف السورية، وتعمل على تجاوز الانقسامات، ووضع رؤية مشتركة تعبر عن تطلعات الشعب السوري بمختلف أطيافه.