اكرم حسين
لطالما كانت مسألة الهوية والانتماء الوطني والقومي ، موضوعات حساسة ومعقدة ، خاصة في دول متعددة القوميات والاديان مثل سوريا ، وتشهد نزاعات وصراعات اقليمية ودولية ، ومن بين القضايا الجدلية التي يثيرها السوريون اليوم ( معارضة وموالاة ) مسألة تواجد الكرد وحقوقهم في سوريا ، وما يثار من مزاعم بانهم ليسوا سوى “مهاجرين” من تركيا…! هذه المزاعم تعكس عمق الصراعات حول الهوية والقومية وتطرح تساؤلات مشروعة تتعلق بالكرد وخصوصيتهم في سوريا .؟؟؟!
السؤال الذي يطرح نفسه هنا : هل كانت منطقة الشرق الأوسط، ، ولا سيما سوريا ، خالية من السكان قبل ” هجرة ” الكرد اليها من تركيا ؟ يجيب التاريخ بالنفي ..!. حيث تؤكد المصادر التاريخية ان منطقة الشرق الاوسط ، بما في ذلك سوريا ، كانت مأهولة منذ عصور ما قبل التاريخ ، بالشعوب والحضارات المتنوعة ، وان الكرد كمجموعة عرقية تعود جذورها الى مناطق تتوزع بين تركيا وسوريا والعراق وايران منذ قرون طويلة . فقد كانوا من مجموعة الممالك والامارات التي نشأت في منطقة كردستان الكبرى ، الممتدة عبر الدول الحالية بين الدول الاربع …!
الأدلة التاريخية والجغرافية والاثرية تشير إلى وجود كردي مستمر في مناطق شمال سوريا لعقود ، إن لم يكن لقرون ، حيث كانت المناطق التي يقطنها الكرد في سوريا تاريخياً ، ذات كثافة كردية ، وإن شهدت موجات من الهجرات والتغيرات الديمغرافية كما حصل بعد عام 2011 وذلك على عكس الادعاءات التي تقول بأن الكرد السوريون قد جاؤوا “كمهاجرين” من تركيا…!
لا تستند المزاعم التي تقول بأن الكرد في سوريا هم “مهاجرون ” من تركيا إلى فرضيات مدعومة بالحقائق التاريخية. فالكرد من شعوب جبال زاغروس القديمة ، ولهم تاريخ طويل يمتد إلى آلاف السنين في المنطقة . تاريخياً، لم يكن هناك فصل واضح بين الكرد في سوريا وتركيا ، إذ كانوا يشكلون جزءاً من نفس الكيان الثقافي والجغرافي والقومي قبل تقسيم المنطقة في العصور الحديثة.
من الضروري أن نفهم أن التاريخ الإقليمي للشعوب لا يمكن اختزاله في سردية بسيطة حول “المهاجرين” و”الأصليين”. في الواقع ، لا توجد هوية ثابتة لشعوب معينة ، بل هي نتاج عمليات تاريخية طويلة ومعقدة. على سبيل المثال، الأتراك الحاليون جاؤوا من أصول عرقية متنوعة ، بما في ذلك هجرات من آسيا الوسطى ، وقد أسسوا دولة قومية في الأناضول بعد قرون من الترحال والاستيطان ، وفرضوا ثقافتهم ولغتهم على المناطق التي استقروا فيها ، ومع مرور الزمن ، أصبح الترك جزءاً أساسياً من نسيج المجتمعات المحلية في الأناضول.
بالمثل ، جاء العرب من شبه الجزيرة العربية إلى مناطق واسعة في المشرق العربي ، وأصبحوا أصحاب الأرض بعد إقامة العديد من الدول والكيانات السياسية على مر العصور. هذه الهجرات والتحولات لم تجعل من الترك والعرب الذين استقروا في المنطقة غرباء أو غير ” أصلاء ” فيها ، وبناءً على هذا المنظور التاريخي ، فإن الحديث عن “أصالة” مجموعة معينة من الناس دون النظر في الديناميات التاريخية الواسعة ، يعكس تجاهلاً للتغيرات المستمرة التي شكلت التركيبة السكانية لشعوب المنطقة ….!
اذا افترضنا – جدلاً – أن الكرد في سوريا قد وصلوا إلى المنطقة في فترة زمنية متأخرة ، فإن مرور الزمن وتطور الأوضاع السياسية لا يمكن أن ينكر حقوقهم القومية . مثلهم مثل أي مجموعة سكانية أخرى ، فقد رسخوا وجودهم الثقافي والاجتماعي والسياسي على مر السنين ، وبالتالي فإن منحهم حقوقاً متساوية مع القوميات السائدة ، بما في ذلك الاعتراف الدستوري لا يغير من طبيعة هذه الدول بل يعزز من قوتها و استقرارها وتنوعها ….؟
من أبرز التناقضات السياسية والاقليمية ، موقف تركيا من الكرد وقضية قبرص ؟ حيث تدعم تركيا إقامة دولة قبرص التركية الشمالية التي لم يعترف بها المجتمع الدولي ، بينما تتجاهل القضايا المتعلقة بـ25 مليون كردي يعيشون على أراضيهم في تركيا …! هذا التناقض ، يعكس سياسة تركيا التي تسعى إلى فرض سيطرتها الإقليمية مع تجاهل الحقوق المشروعة للكرد ، وهو تناقض غير متسق في التعامل مع القضايا القومية…!
الحديث عن أصول الكرد في سوريا ك” مهاجرين ” من تركيا هو تبسيط مخل للتاريخ المعقد والمتعدد الأبعاد. فالكرد كانوا وما زالوا جزءاً أصيلاً من النسيج الاجتماعي في شمال سوريا ، ولهم حقوق قومية مشروعة يجب احترامها والاقرار بها ، وفق العهود والمواثيق الدولية . ..!
في نهاية المطاف، يجب ان يكون أي نقاش حول الهوية والانتماء ، مبنياً على حقائق تاريخية موضوعية ، وعلى العدالة والمساواة ومبادئ حقوق الإنسان ، بعيداً عن التحليلات السياسية الضيقة والتفسيرات الأحادية الجانب…! إن معالجة هذه القضايا تتطلب نظرة عادلة وشاملة ، تتجاوز الاختزالات التاريخية البسيطة ، وتراعي تعقيدات الواقع المعاصر…!