القضية الكوردية بين المقاومة العسكرية والتنازلات السياسية: تحليل جيوسياسي

إبراهيم كابان
لطالما كانت القضية الكوردية واحدة من أكثر القضايا تعقيدًا في الشرق الأوسط، حيث يتوزع الكورد على أربع دول رئيسية (تركيا، إيران، العراق، سوريا). وقد أظهرت التطورات التاريخية أن الكورد يحققون مكاسب عسكرية على الأرض، لكنهم غالبًا ما يخسرون تلك المكاسب على طاولات المفاوضات، بسبب ضعف الموقف السياسي الكوردي وتعرضه لضغوط إقليمية ودولية. يتناول هذا المقال التحليل الجيوسياسي لهذا الواقع، مع تسليط الضوء على طبيعة المفاوضات الكوردية في مواجهة السياسات الإقليمية.
  1. التفاوض كأداة لتمييع القضية الكوردية
تُظهر التجارب التاريخية أن الأنظمة التركية، العربية، والفارسية استخدمت المفاوضات ليس لتحقيق حل عادل للقضية الكوردية، بل للحد من حقوق الكورد وتقليص مكتسباتهم. ولعل أبرز الأسباب التي تؤدي إلى خسارة الكورد في المفاوضات تتمثل في:
عدم امتلاك استراتيجية موحدة: الكورد غالبًا ما يدخلون المفاوضات بمواقف متباينة بين أحزابهم المختلفة، مما يسهل استغلال خلافاتهم من قبل الطرف الآخر.
الضغوط الخارجية: الدول الكبرى تتعامل مع القضية الكوردية وفق مصالحها الاستراتيجية، فتدعم الكورد عسكريًا عند الحاجة، لكنها تتخلى عنهم في المفاوضات من أجل الحفاظ على علاقاتها مع الدول الإقليمية.
ضعف الأدوات السياسية والدبلوماسية: يركز الكورد على القوة العسكرية دون وجود مؤسسات سياسية قوية قادرة على فرض شروطهم في المفاوضات.
  1. التجارب الكوردية في التفاوض: دروس من التاريخ
أ. العراق: من الحكم الذاتي إلى الفيدرالية المهددة
في العراق، حقق الكورد مكاسب كبيرة بعد انتفاضة 1991 وسقوط نظام صدام حسين في 2003، مما أدى إلى ترسيخ إقليم كوردستان بنظام فيدرالي. لكن رغم ذلك، فإن الحكومة العراقية عملت باستمرار على تقليص صلاحيات الإقليم عبر وسائل سياسية واقتصادية، مثل قطع الميزانية وفرض سياسات تهدف إلى تقييد الاستقلالية الكوردية.
ب. تركيا: سياسة الإنكار والمراوغة
في تركيا، استخدمت أنقرة المفاوضات في بعض الفترات مع حزب العمال الكوردستاني (PKK)، لكن هذه المفاوضات لم تكن تهدف إلى منح الكورد حقوقًا حقيقية، بل إلى كسب الوقت وإضعاف المقاومة الكوردية. على سبيل المثال، انتهت مفاوضات 2013-2015 بين الدولة التركية وPKK بانهيارها عندما شعرت أنقرة بأنها ليست بحاجة إلى تقديم تنازلات.
ج. إيران: القمع المستمر
إيران لم تقدم أي شكل من أشكال الحكم الذاتي للكورد، بل استخدمت القمع المباشر كأداة لاحتواء أي تحرك كوردي. وحتى مع وجود حركات كوردية مسلحة مثل حزب الحياة الحرة الكوردستاني (PJAK)، فإن النظام الإيراني يتجنب الدخول في مفاوضات جادة معهم، بل يعتمد على الحل الأمني والعسكري.
د. سوريا: من الفيدرالية إلى اللامركزية غير الواضحة
كان الموقف الكوردي في سوريا متقدمًا في بداية الصراع السوري، حيث طرحت الأحزاب الكوردية مشروع الفيدرالية كحل لمستقبل كورد سوريا. لكن مع تصاعد الضغوط الدولية والإقليمية، وخاصة التركية، تراجع الموقف الكوردي إلى القبول بمبدأ “اللامركزية الإدارية”، وهو طرح غير محدد ولا يضمن حقوقًا واضحة. هذا التراجع أضعف الموقف الكوردي وجعله عرضة لمزيد من التنازلات.
  1. أسباب الضعف الكوردي في المفاوضات
يمكن تلخيص أسباب الضعف الكوردي في المفاوضات في عدة نقاط رئيسية:
الافتقار إلى وحدة سياسية قوية: الانقسامات الحزبية والتنافس الداخلي بين القوى الكوردية يضعف موقفهم التفاوضي.
عدم امتلاك تحالفات استراتيجية دائمة: الكورد يعتمدون على تحالفات مؤقتة مع القوى الكبرى، لكنها غالبًا ما تتغير بحسب المصالح الدولية.
عدم وجود مؤسسات دبلوماسية فاعلة: الكورد بحاجة إلى بناء مؤسسات سياسية ودبلوماسية قادرة على الضغط في الساحة الدولية.
  1. كيف يمكن للكورد تحسين موقفهم التفاوضي؟
إذا أراد الكورد تحويل نجاحاتهم العسكرية إلى مكاسب سياسية حقيقية، يجب عليهم اتباع استراتيجية واضحة تشمل:
  1. توحيد الصف الكوردي: يجب إنشاء مجلس سياسي موحد يمثل جميع التيارات الكوردية، مما يجعل المفاوضات أكثر قوة وثباتًا.
  2. بناء تحالفات دولية متوازنة: الاعتماد على القوى الكبرى يجب أن يكون وفق استراتيجية طويلة الأمد وليس مجرد تحالفات ظرفية.
  3. تعزيز القوة الاقتصادية: الاستقلالية الاقتصادية تعطي الكورد نفوذًا أكبر في المفاوضات، خاصة فيما يتعلق بالموارد الطبيعية مثل النفط والغاز.
  4. استخدام الدبلوماسية الفاعلة: فتح مكاتب تمثيل دبلوماسي في الدول الكبرى يمكن أن يساعد في كسب الدعم السياسي.
  5. التمسك بالحقوق المشروعة وعدم تقديم تنازلات مجانية: أي مفاوضات يجب أن تكون وفق إطار يضمن الحقوق القومية الكوردية بوضوح.
خاتمة
إن ما ينجزه الكورد بالسلاح لا ينبغي أن يُهدَر على طاولة المفاوضات، بل يجب أن يكون مكسبًا استراتيجيًا يستثمر سياسيًا بحنكة وذكاء. التاريخ أثبت أن الدول الإقليمية تسعى دائمًا لتقليص الحقوق الكوردية عبر المفاوضات، مستغلة الانقسامات الداخلية والضعف السياسي. لذلك، فإن بناء موقف كوردي موحد، إلى جانب استراتيجية سياسية ودبلوماسية قوية، هو المفتاح لضمان حقوق الكورد وعدم تكرار أخطاء الماضي.

شارك المقال :

4 1 vote
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي في السنوات الأخيرة، بات من الصعب تجاهل التحوّل المتسارع في نبرة الخطاب العام حول العالم . فالعنصرية والكراهية والتحريض عليهما لم تعودا مجرّد ظواهر هامشية تتسلل من أطراف المجتمع، بل بدأت تتحول، في أكثر الدول ديمقراطية ولم يعد ينحصر في دول الشرق الأوسط ( سوريا . لبنان – العراق – تركيا – ايران وو .. نموذجاً ) وحدها…

ياسر بادلي ليس اختيارُ الرئيس العراقيّ السابق، برهم صالح، مفوّضاً سامياً لشؤون اللاجئين حدثاً عابراً يمرّ على أطراف الأخبار؛ بل هو لحظةٌ ينهضُ فيها تاريخُ شعبٍ كامل ليشهد أن الأمم التي صُنعت من الألم تستطيع أن تكتب للإنسانيّة فصلاً جديداً من الرجاء. فالمسألة ليست منصباً جديداً فحسب… إنه اعترافٌ عالميّ بأنّ الكورد، الذين حملوا قروناً من الاضطهاد والتهجير، ما زالوا…

المحامي عبدالرحمن محمد   تتواصل فصول المسرحية التركية وسياساتها القذرة في الانكار والنفي للوجود التاريخي للشعب الكوردي على ارضه كوردستان، ومحاولاتها المستمرة لالغاء ومحو كلمتي كورد وكوردستان بوصفهما عنوانا للهوية القومية الكوردية والوطنية الكوردستانية من القاموس السياسي والحقوقي والجغرافي الدولي، سواء على جغرافيا كوردستان او على مستوى العالم. تارة يتم ذلك بحجة وذريعة الدين (الاسلام)، وتارة اخرى باسم الاندماج والاخوة،…

  إبراهيم اليوسف وصلتني صباح اليوم رسالة من شاعرة سورية قالت فيها إنها طالما رأتني وطنياً لكنها تجدني أخرج عن ذلك، أحياناً. رددت عليها: صديقتي، وما الذي بدر مني بما يجعلك ترين وطنيتي منقوصة؟ قالت: أنت من أوائل الناس الذين وقفوا ضد ظلم نظام البعث والأسد. قلت لها: ألا ترينني الآن أقف أيضاً ضد ظلم السلطة المفروضة- إقليمياً ودولياً لا…