العلويون، طائفة لم تنصف نفسها!

أمجد عثمان

 

التقيت بالعديد من أبناء الطائفة العلوية خلال عملي السياسي، فعرفتهم عن قرب، اتفقت معهم كما اختلفت، وكان ما يجمع بينهم قناعة راسخة بوحدة سوريا، وحدة لا تقبل الفدرلة، في خيالهم السياسي، فكانت الفدرالية تبدو لبعضهم فكرة دخيلة، واللامركزية خيانة خفية، كان إيمانهم العميق بمركزية الدولة وتماهيها مع السيادة، وفاءً لما نتصوره وطنًا متماسكًا، مكتمل السيادة، لا يقبل التعدد إلا كزينة على جدران المركز.

كان العلويون الذي عرفتهم، متفرقين غير مجتمعين في حزب سياسي، لكنهم مجمعين على الحل السياسي، صادقين حين تحدثوا عن استغلال النظام للطائفة العلوية، يرون أنفسهم أسرى مشروع سلطوي لا يشبههم، رفضوا اعتباره علوياً إنما طائفيًا يعبث بالطوائف، فكانوا يصرّون على أنه استبدادٌ بلا هوية، عابرٌ للطوائف، يخدع الجميع، ويُدجّن الجميع، وإن لم تكن قراءتهم دقيقة، لكنها كانت صادقة في دواخلهم، كنت، في المقابل، أرى المفارقة شديدة القسوة، لأنهم أبناء طائفة غُيّبت وأُنكِرت خصوصيتها، كما غُيّبت خصوصيات الكثيرين، لم يعترف بهم الدستور، ولم يُمنحوا مساحة للتعبير عن ذاتهم كما هي، وبدل أن يطالبوا بما يُنصفهم ويُنصف غيرهم، كانوا يتحدثون بلغة مركزية، يتسع صدرها أحيانًا وتضيق أحيانًا أخرى، خطابهم وصائي، يقيسون الوطنية بميزان مركزي، ويمنحون الآخرين القبول أو الرفض بحسب القرب من تصورهم لسوريا وتاريخها ونشأتها.

أرادوا سوريا واحدة، نعم، لكن كما يرونها، كانوا، في كثير من نقاشاتنا، يلوذون بالدلالات الجميلة حين يضيق النقاش، يغضبون حين نطرح أسئلة الحقوق الجماعية، ربما كانوا يرون فينا مرآةٍ تعكس ما يخفونه بداخلهم من قلق، كانوا يرون في الحديث عن الهويات مخاطرة، وخروجًا عن الإجماع، ويعتبرون التنوع شرخًا لا ثراء، وفيما كانت البلاد تتفسخ تحت أقدامنا، كانوا يملؤون الأوراق بالمفاهيم الوحدوية، ويتجنبون الغوص في الواقع الذي يئن من التصدع.

ومن المفارقات القاسية التي لم تُناقَش بما يكفي، أن النظام نفسه، رغم كل دمويته وجرائمه، كان دائم الحرص على مجاملة الطوائف الأخرى، كان يستقبل رجال الدين المسلمين والمسيحيين، ويُكرّم مشايخ الدروز، ويُجالس وجهاء العشائر العربية، لكنه بغروره السلطوي كان يتجنب إظهار أي وجه علوي في موقع رمزي، خوفًا من اتهامه بالطائفية، كان يخاف ويتملق ويستبد في وقت واحد، لقد همّش وجهاء الطائفة، وخنق صوتها الاجتماعي، وأبقاها في الظل، لا حرصًا على الوحدة، بل حفاظًاً على زيف صورته كـ (نظام علماني وطني).

وفي لقاء جمعني مع نخبة كانت تنتمي للطائفة العلوية قبل عامٍ من الآن، قلت لهم جملةً خرجت من عمق هذا التناقض: لا يمكن أن نراهن على نظام لا يعترف حتى بنفسه، رأس النظام نفسه ينحر هويته كل يوم، لا يجرؤ أن يتطرّق إلى انتمائه العلوي، فكيف ننتظر منه أن يعترف بهويتنا نحن؟ لم يكن ذلك اتهامًا، بل وصفًا لمأساة الهوية حين تُنحر مرتين، مرة حين تُستخدم كأداةٍ للسلطة، ومرة حين تُنكَر من قِبَل من يتسلق ظهرها.

ومن بين المفارقات التي عشتها شخصيًا في المعتقل، عندما التقيت بعدد من المناضلين العلويين، كان أحدهم الأقرب إليّ، يكبرني بعقدين، ينتمي لحزب العمل، شديد التهذيب، بالغ التواضع، كنا في مهجعٍ واحد مع معتقلين من بينهم منتمون لتنظيم القاعدة، وجماعة الإخوان المسلمين، ورغم أن الجدران واحدة والقدر واحد، كان الداخل مقسوماً بطُرق لا مركزية في التنظيم والعلاقات، لم يكن هناك دستور مركزي داخل المهجع، بل كانت التهمة والانتماءات الثقافية والجغرافية تلعب دورًا محوريًا في تشكيل مجموعات صغيرة، لكلٍ منها خصوصيته، وأحيانًا خطوطه الحمراء، حتى سفرة الطعام كانت تُقسّم على هذا الأساس، لم نكن نسميها حزبًا، بل سفرة، وهي الوحدة الاجتماعية الأساسية داخل السجن، كنا نتشارك فيها الوجبات ونختبر الانتماءات، كل مجموعة تأكل وتنام وتناقش ضمن نطاقها، نعيش لا مركزية فطرية تحت سلطة مركزية مطلقة، وسط هذا المشهد المتشظي، كانت هناك مفارقة صارخة، كان رئيس المهجع مساعداً في القوات البحرية، ينتمي للطائفة العلوية، لم يكن معتقلاً سياسيًا، بل اعتُقل بتهمة السطو المسلح، تهمة جنائية قذفت به إلى نفس الجدران، وكان يسأل صديقي المعارض العلوي بدهشة لا تخلو من سذاجة: “علوي ومعارض”؟! سؤالٌ يعكس حجم الخلط بين الهوية السياسية والطائفة والولاء.

لقد دفع العلويون ثمنًا باهظًا لصورةٍ لم يختاروها، حُرموا من تمثيل رمزي داخل الدولة التي تحكم باسمهم، بينما استخدمتهم كوقود في معركتها، هكذا تفعل عادةً السلطات التي لا تمتلك ألياتٍ لإنتاج الشرعية الحقيقية، تُنكر انتماءها الأصلي، وتجامل الجميع على حساب أقرب الناس إليها، ومع سقوط النظام، سقط معه ما تبقى من أوهام، فلم يترك للعلويين مرجعية سياسية، ولا مظلة تمثلهم، بل تركهم مكشوفين في مهبّ الريح، ومع ذلك، فالمسؤولية لا تقع على النظام وحده، بل تمتد إلى تلك النخب العلوية في المعارضة السياسية، التي عاشت في ظل الإنكار، ورفضت أن تبني لنفسها صوتًا وهوية، تمامًا كما فعل النظام باسم الوحدة الوطنية، بفارق، أن النظام كان يُوظّف الطائفة في معركته من أجل البقاء، المفارقة أن المعارضون العلويون لم يخطر لهم أن يقدموا بديلاً سياسيًا يُنصف العلويين، ولم ينجحوا في تفكيك صورة “الطائفة الحامية للنظام” التي التصقت بهم ظلمًا، بقيوا على الهامش، وسمحوا للفجوة بأن تتسع، حتى بات العلويون اليوم في موقع العجز عن تحديد مكانهم في سوريا الجديدة.

رغم كل ذلك، أؤمن بأن المجتمع العلوي بكل ما يحمله من طيبة وألم وقلق، قادرٌ على تجاوز إرث الإنكار والخوف، وقادرٌ على إعادة بناء ذاته ونخبه والمساهمة في بناء سوريا التي لن تختصرها طائفة، ولن تُقصى فيها طائفة، سوريا التي لا يجب أن يضطر فيها أحد لأن يختبئ خلف شعاراتٍ تُنكر وجوده، لقد آن الأوان ليخرج العلويون ونخبهم من صمتهم السياسي، للدفاع عن وجودهم، ولبناء مرجعية صادقة تمثلهم، تُنصفهم، وتُنصف غيرهم، مرجعية تنطلق من الاعتراف بالذات، لا التنكّر لها، ومن الإيمان بأن العيش المشترك لا يُبنى على الإنكار، بل على الصراحة والتصالح مع الذات أولاً ثم مع الآخرين.

إن المجتمع العلوي ليس عبئًا على سوريا، بل طاقة كامنة فيها، جزءٌ أصيل من حكايتها، وركن من أركان مستقبلها، وكلما باح بخوفه، وواجه تجربته، وسعى مع الآخرين نحو مستقبلٍ عادل، كلما اقتربنا جميعًا من وطنٍ موحد يحفظ أسماء أبنائه واحداً واحداً، دون أن ينسى أحد.

==============

https://www.facebook.com/amced/

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

كفاح محمود   لطالما كانت الحرية، بمختلف تجلياتها، مطلبًا أساسيًا للشعوب، لكنّها في الوقت ذاته تظل مفهومًا إشكاليًا يحمل في طياته تحديات كبرى. ففي العصر الحديث، مع تطور وسائل الاتصال وانتشار الفضاء الرقمي، اكتسبت حرية التعبير زخمًا غير مسبوق، مما أعاد طرح التساؤلات حول مدى حدود هذه الحرية وضرورة تنظيمها لضمان عدم تحولها إلى فوضى. وفي العالم العربي، حيث تتفاوت…

إبراهيم محمود   بداية، أشكر باحثنا الكردي الدكتور محمود عباس، في تعليقه الشفاف والمتبصر” في مقاله ( عن حلقة إبراهيم محمود، حوار مهم يستحق المتابعة ” 11 نيسان 2025 “. موقع ولاتي مه، وفي نهاية المقال، رابط للحوار المتلفز)، على حواري مع كاتبنا الكردي جان دوست، على قناة ” شمس ” الكردية، باللغة العربية، في هولير، ومع الشكر هذا، أعتذر…

المحامي عبدالرحمن نجار   إن المؤتمر المزمع عقده في ١٨ نيسان في الجزيرة هو مؤتمر الأحزاب التي معظم قياداتها كانت تتهرب من ثوابت حق شعبنا الكوردي وفق القانون الدولي. وكانت برامجها دونية لاترقى إلى مصاف ومرتبة شعبنا الكوردي كشعب أصلي يعيش على أرضه التاريخية، وتحكم حقوقه القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، وتتجلى في حق تقرير المصير!. وحيث أن…

قهرمان مرعان آغا يحصل لغط كثير و تباين واضح ، مقصود أو جهل بإطلاق المصطلحات القانونية والسياسية، فيما يتعلق بالشعب الكوردي و حقوقه القومية و وطنه كوردستان ، تحديداً في كوردستان الغربية/ سوريا . هناك حقيقة جغرافية طبيعية و بشرية و حدود سياسية بأمر واقع في كوردستان ، الوطن المُجزء و المُقسَّم بين الدول الأربع ، تركيا ، ايران ،…