الشمال السوري ومعارك إنهاء الوجود الإيراني.

   عبدالرحمن كلو 

يبدو أن منطقة الشرق الأوسط أمام معادلة توازنية جديدة وخارطة علاقات أساسها أنقاض المشروع الشيعي العقائدي المهزوم.

ويمكن تسمية المرحلة على أنها مرحلة ما بعد هزيمة دولة ولاية الفقيه. فحرب غزة التي أشعلتها إيران نيرانها أشعلت المنطقة برمتها، ولم تنتهِ بصفقة أو صفقات كما توقع البعض، إذ خابت كل التوقعات والمراهنات بما في ذلك مراهنات البيت الأبيض الذي حاول مرارًا مع إسرائيل، لكن حكومة نتنياهو، ورغم الضغوط الداخلية من المعارضة ومن ذوي المختطفين، آثرت أن تمضي قدماً في الحرب على عدة جبهات معاً: جبهة غزة، جبهة حزب الله، جبهة المواقع الإيرانية في سوريا، وجبهة الحوثيين، التزاماً منها بعقيدتها العسكرية التاريخية، متجاهلةً أية اعتبارات أخرى.

ومن خلال جبروت الآلة العسكرية المعززة بالتكنولوجيا المتطورة مع القدرة الاستخباراتية، استطاعت تحييد جبهة غزة حتى آخر صاروخ لحماس كعملية وقائية. ومن ثم أنهت الجبهة اللبنانية لصالحها بعد فرض الاتفاق مع الدولة اللبنانية وإنهاء النشاط العسكري لحزب الله، لتتوجه إلى العمق السوري حيث التواجد الإيراني، معتمدة استراتيجية عسكرية مختلفة وأكثر تعقيداً عن سابقاتها. بدعم مباشر من الولايات المتحدة الأمريكية، نجحت إسرائيل في بناء تحالفات دولية وإقليمية، حيث جرى التنسيق مع روسيا وتركيا لتنفيذ خطة تهدف إلى إنهاء الوجود الإيراني في سوريا عبر سلسلة من المقايضات والمصالح المشتركة.

ضمن هذه الاستراتيجية، جاء الاتفاق مع روسيا على أساس تقديم ضمانات بإنهاء الحرب الأوكرانية لصالح موسكو، مع وعود بتغييرات جوهرية في السياسة الدولية عند استلام إدارة ترامب المحتملة للبيت الأبيض. هذه الترتيبات منحت روسيا حافزاً للانضمام إلى التحركات الإقليمية، خاصة أن استقرار جبهتها الغربية يعد أولوية في ظل الأزمات المتصاعدة.

تركيا، من جهتها، رأت في هذا التحرك فرصة ذهبية لتحقيق أهدافها القومية التاريخية، وعلى رأسها إحياء مشروع “الميثاق الملّي”، الذي يشكل حجر الزاوية في طموحاتها الاستراتيجية. إضافة إلى ذلك، انضمت تركيا للفريق الإسرائيلي مدفوعة بتخوفها من الحسابات الجيوسياسية الجديدة، خاصة تلك التي تتعلق بالدور المتزايد للجغرافيا الكوردية في رسم خرائط التوازنات الإقليمية. هذا الدور، الذي تعهدت إسرائيل بضمانه في استراتيجيتها لإعادة تشكيل المنطقة، جعل أنقرة تتحرك بخطوات استباقية.

في هذا السياق، استعانت تركيا بورقة حزب العمال الكوردستاني (PKK) وزعيمه عبد الله أوجلان لمحاولة استمالة مناطق سيطرة “قسد” تحت ذرائع أمنية مرتبطة بمصالح أمنها القومي، كما أنها لم تتردد في استثمار اللحظة السانحة للتخلي عن صيغة أستانة والانقلاب على شريكها الإيراني السابق، مستغلة ضعف نفوذه في سوريا، لتعيد تشكيل علاقاتها وفق قواعد جديدة تتماشى مع مصالحها الوطنية وتضمن لنفسها شراكة قوية في المشهد السوري.

بهذه التحركات، أكدت تركيا استعدادها للانضمام إلى جبهة إسرائيل المناهضة لإيران، متجاوزة كافة الاتفاقات السابقة، ومكرسة بذلك استراتيجيتها القائمة على استغلال اللحظة الحاسمة في ضعف النفوذ الإيراني وتحقيق طموحاتها الإقليمية، مع ضمان تعزيز موقعها ضمن التحالفات الدولية والإقليمية المتغيرة.

كما أن العملية العسكرية التي أطلقتها هيئة تحرير الشام في الشمال السوري كشفت عن مسائل جوهرية كانت غائبة إلى حد كبير عن المشهد السياسي والعسكري في المنطقة.

المسألة الأولى: علاقة الـPKK بالنظام السوري، والتي ظهرت من خلال تواجده في أحياء حلب، مثل الأشرفية والشيخ مقصود، إضافة إلى مناطق الشهباء وتل رفعت. هذا التواجد الكانتوني وحرية نشاط التنظيم في العاصمة دمشق يُظهر أن هناك تفاهمات واتفاقات استراتيجية ممتدة تشمل إيران والعراق وكامل الجغرافيا السورية، بما يحكم المربعات الأمنية في مناطق سيطرة الـPKK وكانتوناته في سنجار وبعض مناطق العراق ضمن إطار عمل مشترك موحد.

وفي هذا السياق، لم تسجل أي اشتباكات مسلحة بين مسلحي الـPKK في حلب أو تل رفعت أو منطقة الشهباء، بل تم توجيههم للتمركز في بلدتي نبل والزهراء الشيعيتين لتأمين البلدتين نيابة عن الميليشيات الإيرانية التي انسحبت من تلك المناطق. وتجدر الإشارة إلى أن تل رفعت كانت بمثابة حزام أمان داعم للميليشيات الإيرانية في نبل والزهراء، بما يعني أن السلوك العسكري في مسار العملية يحكمه ضوابط إقليمية ودولية، وهو ما يكشف طبيعة التحالفات الأمنية والعسكرية في تلك المنطقة وتداخل الأدوار بين الأطراف الفاعلة.

هذه التفاهمات لا تقتصر على سوريا فقط، بل تمتد إلى مناطق أخرى مثل سنجار وبعض المناطق العراقية، مما يؤكد أن المربعات الأمنية في مناطق سيطرة الـPKK تعمل ضمن إطار قواعد عمل مشترك ومنظم يشمل هذه الجغرافيات المتصلة. هذا التنسيق يشير إلى وجود استراتيجية شاملة تُدار بين الأطراف المعنية، ما يسلط الضوء على مدى تعقيد وتشابك الأوضاع في الشمال السوري والمنطقة ككل.

المسألة الثانية التي كشفت عنها العملية هي قوة العلاقة بين الميليشيات والفصائل المسلحة والدولة العميقة في تركيا، إذ تعتمد تركيا وبشكل كبير في سياساتها الخارجية على قوة ميليشياتها غير المنضوية بشكل رسمي في قوام أجهزتها العسكرية والأمنية. فهي تعتمد المؤسسات الرسمية للدولة في الترتيبات الأمنية والعلاقات الدبلوماسية والسياسية مع كل من إيران وروسيا من خلال منصة أستانة من جهة، ومن جهة أخرى تعتمد على عمل ميليشيات مسلحة بغطاء سياسي سوري في مساحات اللّادولة واللاقانون، تهرباً من استحقاقات القانون الدولي والمحاسبة من قبل الحلفاء المفترضين، لتنسف كل ما اتُفق عليه في القنوات الرسمية مع الشركاء.

اجتماعات أستانة في مهب الريح

من المفيد التذكير بأن الجولة الثانية والعشرين من اجتماعات “مسار أستانة” بشأن الأزمة السورية في العاصمة الكازاخية أستانة عُقدت في يومي 11 و12 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، بمشاركة وفود من الدول الضامنة: تركيا، روسيا، وإيران، إلى جانب ممثلي النظام والمعارضة السورية.

وأصدرت الدول الضامنة بياناً ختامياً أكدت فيه على ضرورة الحفاظ على الهدوء في إدلب، وأدانت بشدة الهجمات الإسرائيلية على الأراضي السورية. كما شددت على أهمية تحقيق تسوية دائمة وشاملة للأزمة السورية، ورفضت بشكل قاطع جميع المحاولات الرامية إلى فرض وقائع جديدة على الأرض، بما في ذلك مبادرات “الحكم الذاتي غير المشروعة” في شمال شرقي سوريا.

إلا أن هذا البيان لم يمكث طويلاً قبل أن تهتز أرض الواقع بأحداث مفاجئة. ففي 27 نوفمبر، أي بعد أسبوعين فقط من انتهاء الاجتماعات، شنت الميليشيات الموالية لتركيا هجوماً مباغتاً على مناطق إدلب وريف حلب، متوغلة في عمق مناطق النظام حتى مشارف حماة.

هذا التصعيد العسكري، الذي جاء بعد تحضيرات امتدت لأشهر طويلة، يعكس تناقضاً صارخاً بين تصريحات التهدئة في أستانة والتحركات الميدانية التركية. فتركيا، التي توافقت مع الدول الضامنة على ضرورة تهدئة منطقة “خفض التصعيد” الرابعة، كانت في الوقت نفسه تحضر لهجوم عسكري كبير يُنظر إليه على أنه تنفيذ لأجندات تتجاوز الحدود السورية، بما فيها خدمة مصالح إسرائيل في تفكيك النفوذ الإيراني في سوريا.

تتلاشى بذلك مصداقية مسار أستانة كإطار للحوار والتفاهم، وتُترك التساؤلات مفتوحة حول جدوى هذه الاجتماعات إذا كانت قراراتها تُنسف على الأرض بعد أيام قليلة.

ولم تتردد إيران، وعلى لسان وزير خارجيتها، بوصف العملية العسكرية على أنها مؤامرة إقليمية وكان يعني بذلك تركيا تحديداً.

وأخيراً، يمكن قراءة هذا التصعيد العسكري على أنه مدروس بشكل محكم لإعادة رسم التوازنات في المنطقة، وجاء ضمن خطة تعكس تنسيقاً إقليمياً بين تركيا وإسرائيل، استهدف مناطق النفوذ الإيرانية في سوريا، ما يعكس سعياً واضحاً لإعادة تشكيل التوازنات الجيوسياسية في المنطقة، بما يخدم استراتيجية إسرائيل بخصوص مستقبل سوريا والمنطقة.

كما أنه يأتي في سياق أوسع يهدف إلى إعادة رسم المشهد السياسي في إطار ما يمكن وصفه بمشروع شرق أوسط جديد الذي وضع أسسه شمعون بيريز في كتابه “الشرق الأوسط الجديد” عام 1993.

وفي ذات الاتجاه، ارتدادات حالة الصراع المستمرة سوف تحمل معها تغييرات نوعية، مما يشير إلى أن المنطقة مقبلة على تحولات كبرى ستعيد تشكيل خارطة النفوذ السياسي والجغرافي.

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

المهندس باسل قس نصر الله ونعمٌ .. بأنني لم أقل أن كل شيء ممتاز وأن لا أحداً سيدخل حلب .. فكانوا هم أول من خَرَج ونعم .. بأنني كنتُ مستشاراً لمفتي سورية من ٢٠٠٦ حتى الغاء المنصب في عام ٢٠٢١ واستُبدل ذلك بلجان إفتاء في كل محافظة وهناك رئيس لجان افتاء لسائر المحافظات السورية. ونعم أخرى .. بأنني مسيحي وأكون…

إبراهيم اليوسف بعد الفضائح التي ارتكبها غير الطيب رجب أردوغان في احتلاله لعفرين- من أجل ديمومة كرسيه وليس لأجل مصلحة تركيا- واستعانته بقطاع طرق مرتزقة مجرمين يعيثون قتلاً وفسادًا في عفرين، حاول هذه المرة أن يعدل عن خطته السابقة. يبدو أن هناك ضوءًا أخضر من جهات دولية لتنفيذ المخطط وطرد إيران من سوريا، والإجهاز على حزب الله. لكن، وكل هذا…

نظام مير محمدي* في 26 نوفمبر/تشرين الثاني، نشرت صحيفة جمهوري إسلامي الحكومية مقالاً بعنوان “الخوف من ثورة الجماهير الجائعة”، محذرة قادة النظام: “كل يوم، تتعمق الأزمة الاقتصادية؛ يزداد الفقراء فقراً، والأغنياء ثراءً، ويصبح المستنقع غير المسبوق من النخبوية الذي يجتاح مجتمعنا أكثر انتشارًا”. وسلط المقال الضوء على أن الطبقة النخبوية الجديدة “تعيش في قصور أكثر إسرافًا من قصور الشاه…

إبراهيم اليوسف   لقد أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي، في وقتنا المعاصر، منصات عالمية تتيح لجميعنا التعبير عن آرائنا، مهما كانت هذه الآراء إيجابية أو سلبية. لكن هناك ظاهرة جديدة تتجسد في ما يمكن أن نسميه “إطلاق النار الاستباقي”، وهو الهجوم أو النقد في صورته المشوهة الذي يستهدف أي فكرة أو عمل قبل أن يرى النور. لا تقتصر هذه الظاهرة على…