إبراهيم اليوسف
في عالمنا الحالي، تبدو السياسة وكأنها تخلت عن المبادئ الأخلاقية التي كانت تدّعي تمثيلها، ودخلت مرحلة ما بعد الحداثة التي يمكن وصفها بالسريالية. إذ تتسم هذه المرحلة بالانهيار الأخلاقي حيث تتداخل المصالح الاقتصادية والنفوذ السياسي بطريقة تفضح عمق التناقضات في المشهد الدولي. في هذه الساحة الغرائبية، يتماهى الغرب وروسيا، وتتراجع القيم الإنسانية لتصبح ضحية للسعي وراء السلطة والمكاسب.
السقوط الأخلاقي وتصدع القوى العظمى:
لنعد إلى عام 2001، عندما بدأت الولايات المتحدة “الحرب على الإرهاب” بعد أحداث 11 سبتمبر. فقد اتخذت هذه الحرب طابعًا عالميًا، حيث تدخلت أمريكا في الشرق الأوسط تحت ذرائع حماية الديمقراطية ومحاربة الإرهاب، إذ غُذِّي الإرهاب وتمت رعايته إلى أن ظهر أنموذج تنظيم داعش الإرهابي بالغاً ذروته في العام 2014، كما أن الفوضى التي عمت المنطقة أسهمت في انتشار الإرهاب عوضا عن احتوائه. هذا التدخل العسكري أصبح بمثابة سابقة لتبرير الأعمال العدوانية باسم “حماية القيم”، في حين كان الهدف الحقيقي تحقيق مصالح استراتيجية واقتصادية.
تكررت هذه الأنماط في ذروة مرحلة الأزمة المالية العالمية عام 2008، حيث خضعت الحكومات الغربية لضغوط المؤسسات المالية الكبرى. ففي سبتمبر من ذلك العام، انفجرت فقاعة الرهن العقاري في الولايات المتحدة، مدمّرةً الاقتصاد الأمريكي والعالمي، ما اضطر الحكومات إلى إنقاذ مصارف وشركات كبرى بأموال دافعي الضرائب. هنا، حُطِّم مفهوم “السوق الحر” لصالح إنقاذ النخبة المالية، مما كشف تواطؤ الحكومات مع المؤسسات المالية الكبرى على حساب الطبقات الوسطى والفقيرة. هذا الحدث أسهم بشكل كبير في تقويض ثقة الناس بمبادئ العدالة الاقتصادية وفضح التناقض بين ما تدعيه السياسة وما تطبقه فعليًا.
السياسة السريالية: روسيا وصناعة الوهم السياسي
على الجانب الآخر، كانت روسيا في السنوات الأخيرة تقدم نموذجًا سرياليًا من السياسة. فمنذ وصول فلاديمير بوتين إلى الحكم، اتخذت روسيا منهجًا يعتمد على القوة الناعمة الممزوجة بالتضليل الإعلامي والتدخل السري في شؤون الدول الأخرى. على سبيل المثال، تُعتبر قضية “تدخل روسيا في الانتخابات الأمريكية 2016” أحد أبرز هذه الحوادث. من خلال حملات التضليل عبر وسائل التواصل الاجتماعي وهجمات القرصنة، إذ استطاعت روسيا زعزعة الثقة بالنظام الديمقراطي الأمريكي، وأثارت الشكوك حول نزاهة الانتخابات التي أوصلت دونالد ترامب إلى الرئاسة.
تتجلى السريالية السياسية هنا في أن الدول التي تعتبر نفسها حامية الديمقراطية أصبحت عرضة لأدوات الدعاية والتضليل. كما طبقت روسيا هذا النهج على الصعيد الأوروبي أيضًا، حيث دعمت حركات متطرفة في دول مثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا لتعزيز الانقسام داخل الاتحاد الأوروبي. هذا الواقع خلق شعورًا بالسريالية حيث يُتَلَاعَب بالديمقراطية ذاتها كوسيلة للهيمنة، عوضا عن أن تكون قيمة أخلاقية ثابتة.
التناقض الأخلاقي وتجربة ترامب: الحامي الذي لا يملك قيمًا
في هذا المشهد المتناقض، يظهر رونالد ترامب كرمز للسريالية السياسية، فهو الذي ينادي بشعارات “أمريكا أولًا” و”استعادة القيم التقليدية”، بينما سجله مليء بالفضائح والتصريحات المثيرة للجدل. فرغم وعوده بـ”تجفيف مستنقع” الفساد في واشنطن، أظهرت سنوات حكمه نمطًا من السياسات القائمة على تعزيز مصالحه الشخصية، كما كان يتسم بإدارته المتقلبة وغير المنسجمة. ورغم ذلك، يرى بعض الأمريكيين وحتى بعض الدول فيه رمزًا يعولون عليه لحماية القيم الأخلاقية التي بدأت تتلاشى.
هذا التناقض العميق بين من يدّعي حماية القيم وبين الواقع يكشف سقوط معايير النزاهة السياسية، ويؤكد مدى التعقيد في السياسة ما بعد الحداثية. في 2021، بعد فشل ترامب في الفوز بولاية ثانية، شهدنا أحداثًا غير مسبوقة في التاريخ الأمريكي المعاصر عندما اقتحم أنصاره مبنى الكابيتول في واشنطن في 6 يناير، محاولين منع الكونغرس من التصديق على نتائج الانتخابات. هذا الحدث أثار تساؤلات عميقة حول استقرار الديمقراطية في أكبر قوة عالمية، وزاد غرائبية المشهد السياسي.
الأسرة الدولية وانهيار منظومة القيم العالمية
مع انهيار الاتحاد السوفيتي في التسعينات، كانت التوقعات تشير إلى أن الأسرة الدولية ستتحول إلى مجتمع عالمي أكثر تماسكًا وعدالة. لكن بعد مرور ثلاثين عامًا، يبدو أن القيم الأخلاقية في السياسة الدولية تراجعت بشكل مقلق. تُبرز أزمة الحرب في سوريا، التي اندلعت عام 2011، وتهاون الأسرة الدولية في اتخاذ موقف حاسم. ففي هذه الحرب المستمرة منذ أكثر من عقد، بعد أن تورطت قوى عالمية وإقليمية مثل الولايات المتحدة وروسيا وإيران وتركيا، ما أدى إلى تدمير البلاد وانتهاك حقوق الملايين من المدنيين، وكان كل ذلك في خدمة النظام الدكتاتوري المجرم لتقديمه كمخَلِّص، بعد أن تعرت أقنعة وجوه الكثيرين من أعمدة المعارضة المزيفة التابعة لهذه العاصمة أو تلك.
في هذا السياق، تبدو الأمم المتحدة وغيرها من المؤسسات الدولية عاجزة عن وقف الانتهاكات المستمرة، وكأنها أضحت شاهدًا على سياسة “البقاء للأقوى”. يمكن القول إن الحرب السورية تجسد انهيار القيم الإنسانية على المستوى الدولي، حيث أصبحت حياة الإنسان وأمنه عرضة للتفاوض والمساومة.
إن السقوط الأخلاقي الذي نشهده اليوم ليس مجرد عرض جانبي، بل هو السمة الأساسية للسياسة ما بعد الحداثية. لم تعد القيم الإنسانية والأخلاقية ذات مكانة مركزية في قرارات الدول؛ بل أصبحت مجرد شعارات تُستغل لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية. وهذا المشهد المتداخل بين القوى العالمية، حيث تلتقي روسيا وأمريكا والأسرة الدولية في حالة سريالية من الفساد والتلاعب، يدعو إلى إعادة النظر في المعايير التي تُدار بها السياسة الدولية.
في خضم هذا كله، لا يبدو أن هناك نهاية قريبة لهذا الانحدار، إذ تستمر القوى الكبرى في تهميش القيم الإنسانية لأجل تحقيق مصالحها. ومن هنا، يبقى العالم أمام تحدٍ أخلاقيّ كبير، حيث الحاجة ملحّة إلى قادة يمتلكون رؤية أخلاقية حقيقية لإعادة بناء النظام الدولي، عوضا عن الركض وراء مصالح آنية.