الديمقراطية بين الشعارات والتطبيق

خالد بهلوي

 

بعد ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى وإرساء أسس بناء الاشتراكية وظهور المعسكر الاشتراكي كقوة اقتصادية وعسكرية تنافس الدول الرأسمالية ومعسكر الحلف الأطلسي، انعكس هذا التوازن على العديد من الدول، فحصلت على استقلالها، ومن بينها الدول العربية. كما خلقت هذه التحولات قاعدة جماهيرية تنادي بضرورة الاشتراكية، وأصبحت بعض هذه الدول، وحتى الأحزاب القومية التي تشكلت فيها، تدّعي الاشتراكية وتحمل في شعاراتها وبرامجها مبادئ الاشتراكية العلمية.

لكن بعد زوال المنظومة الاشتراكية وظهور المعسكر الغربي كقوة وحيدة في العالم، تغيرت الكثيرمن المفاهيم والبرامج والأفكار لهذه الأحزاب نفسها، فتخلّت عن شعاراتها الاشتراكية ورفعت شعار الديمقراطية كسبيل لحل جميع مشاكلها القومية والطبقية والاجتماعية والاقتصادية.

الديمقراطية قديمة تاريخيًا، فقد مورست بأشكال متعددة وفي ظروف مختلفة، وكان الجميع يطالب بها، لكن وفق مصلحته؛ فعندما يحتاج إليها لتحقيق مكاسب معينة يرفع شعارها، وحين يصل إلى السلطة ويمسك بمقاليد الحكم، يتحوّل إلى ممارسة الديكتاتورية للحفاظ على مصالحه وامتيازاته.

فعندما قامت ثورة أكتوبر، أعلنت دكتاتورية البروليتاريا، لأن مصلحة العمال والفلاحين والمثقفين الثوريين كانت تقتضي ذلك. أما في البلدان العربية، فالديمقراطية نسبية، تُمنح وفق مصلحة الطبقة الحاكمة، وتظل حالة مؤقتة تفرضها الظروف الداخلية والخارجية للحفاظ على التوازنات الناجمة عن الضغط الجماهيري بسبب الفوارق الطبقية وانتشار الأمراض والبطالة والجوع، إضافة إلى الهيمنة الأمنية على جميع مفاصل الحياة. تحارب الأنظمة القوى المعارضة باتباع سياسة الفقر والتجويع، حتى لا يفكر المواطن إلا في قوته اليومي، ويجعل الأولوية القضاء على الجوع قبل التفكير في الديمقراطية والحرية.

لكن في رأيي، فإن الخبز والديمقراطية متلازمان، فلنحمل رغيف الخبز في يد ومشعل الديمقراطية في اليد الأخرى.  وقد كان الحزب الشيوعي السوري يردد شعار خبز، سلم، حرية في مظاهراته الصاخبة ضد الأنظمة الديكتاتورية    التي حكمت سوريا لعقود.

1-المخططات الأميركية والهيمنة

إن المخططات الأميركية الرامية إلى الهيمنة الاقتصادية ونهب خيرات الشعوب، وعلى رأسها النفط، وفتح أسواق لتصريف بضائعها ومنتجاتها الصناعية وأسلحتها التقليدية، دفعتها إلى احتلال أفغانستان، ثم العراق، تحت ذريعة إقامة أنظمة ديمقراطية وتحرير الشعوب من الطغاة. رغم عدوانية هذه السياسة، فإن لها وجهًا آخر يتمثل في دفع الشعوب المسحوقة في العالم العربي نحو إقامة أنظمة ديمقراطية، لكن بشرط عدم المساس بالمصالح الأميركية وحلفائها.

مع ذلك، فقد أسهمت هذه الضغوط الخارجية في تعزيز بعض مظاهر الديمقراطية. ففي ظل نظام صدام حسين البائد،                    لم يكن بالإمكان معارضة أي قرار صادر عن الحاكم أو مناقشته، أما بعد سقوط النظام، فقد ظهرت قوى سياسية ودينية وقومية، وتشكلت أحزاب لها مكاتب وصحف علنية، وشاركت في وضع دستور للبلاد. كما طالبت بعض القوى بتعديل بعض مواد الدستور الجديد، وتمت الاستجابة لها، وهو أمر كان مستحيلًا في زمن الدكتاتورية السابقة.

وإذا جاءت الانتخابات بقوى دينية إلى الحكم، فما المانع في ذلك طالما أن الأمر جرى عبر صناديق الاقتراع وانتخابات حرة؟ ومع مرور الزمن، سيدرك الشعب العراقي إن كانت هذه القوى الدينية تمثل مصالحه وطموحاته نحو العدالة والمساواة أم لا، وسيتصرف بناءً على ذلك في الانتخابات القادمة.

 2- الماركسية والإصلاح

ترى الماركسية أن الإصلاح مجرد خدعة برجوازية لا تحقق سوى مكاسب محدودة للطبقات الحاكمة. ويؤكد لينين أن الإصلاح يُبقي الطبقة المستغِلة في السلطة، مما يكرّس السيطرة الطبقية التي لن تزول إلا بالتغيير الجذري، أي عبر الثورة.

أما في البلدان العربية، فعلى قوى اليسار أن تتضامن وتتبنى برامج مشتركة واقعية، مستفيدة من المنتديات الثقافية والظروف الدولية، لخلق حالة من الحوار المستمر، وعقد مؤتمرات وطنية تتفق على النقاط الأساسية لخدمة الشعب الكادح والمظلوم، بعيدًا عن أي تدخل خارجي قد يؤثر سلبًا على النضال الوطني.

لكن الأنظمة الحاكمة تستمر في فرض قبضتها الأمنية، ومنع أي نقاش أو اجتماعات في المنتديات، حتى تظل تحت سيطرتها حفاظًا على مكاسبها، مستندة إلى الأحكام العرفية وحالة الطوارئ المفروضة كالسيف على رقاب كل من يجرؤ على المعارضة أو إبداء رأي يخالف السلطة.

3- الديمقراطية والإصلاحات السياسية

كلما اتسعت الديمقراطية، زادت فرص الإصلاحات السياسية، بعكس ما تردده بعض الأنظمة من أن الديمقراطية تؤدي إلى الفوضى والانفلات الأمني. فتلك الأنظمة تخشى أن تؤدي المظاهرات والإضرابات إلى اعتصامات مدنية، وصولًا إلى إقامة نظام ديمقراطي حقيقي وإجراء إصلاحات سياسية تمنح الشعب دورًا أكبر في صنع القرار.

الديمقراطية تتيح كشف التزوير والتلاعب في الانتخابات التشريعية، مما يسمح بانتخاب برلمانات حقيقية تعبر عن مصالح الشعوب، وخاصة الفقراء والكادحين. وقد رأينا تجارب عدة دول، حيث أدت حرية الانتخابات إلى تشكيل حكومات بأغلبية برلمانية شرعية، مارست صلاحياتها المستمدة من الإرادة الشعبية

4-  الإصلاح السياسي في العالم العربي

يبدو الإصلاح السياسي في العالم العربي، وخاصة في الأنظمة الملكية، شبه مستحيل. وكما قال أحدهم: القادة العرب            لا يذهبون إلا بالقبر أو القهر. فهذه الأنظمة لا تمنح هامشًا حقيقيًا من الحرية، لأن ذلك يتعارض مع مصالحها وامتيازاتها. الحكم في اغلبها وراثي، وأي إصلاح يتم فرضه عليها نتيجة ضغوط دولية أو داخلية، مثل تنامي الوعي السياسي ووجود منظمات حقوق الإنسان وارتفاع معدلات الفقر والبطالة.

رغم نداءات المنظمات الدولية، لا تزال الفوارق الطبقية تتسع، وتواصل الأسر الحاكمة قمعها لنضال شعوبها، فيما يزداد الحكام ثراءً ويودعون أموالهم في البنوك الأجنبية، بينما تحرم شعوبهم من ثرواتها.

في ظل هذه المتغيرات، يستمر النضال من أجل الديمقراطية والحرية والعدالة في توزيع الثروات،  حتى تتحقق المساواة الفعلية بين جميع أفراد المجتمع .

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

كفاح محمود   لطالما كانت الحرية، بمختلف تجلياتها، مطلبًا أساسيًا للشعوب، لكنّها في الوقت ذاته تظل مفهومًا إشكاليًا يحمل في طياته تحديات كبرى. ففي العصر الحديث، مع تطور وسائل الاتصال وانتشار الفضاء الرقمي، اكتسبت حرية التعبير زخمًا غير مسبوق، مما أعاد طرح التساؤلات حول مدى حدود هذه الحرية وضرورة تنظيمها لضمان عدم تحولها إلى فوضى. وفي العالم العربي، حيث تتفاوت…

إبراهيم محمود   بداية، أشكر باحثنا الكردي الدكتور محمود عباس، في تعليقه الشفاف والمتبصر” في مقاله ( عن حلقة إبراهيم محمود، حوار مهم يستحق المتابعة ” 11 نيسان 2025 “. موقع ولاتي مه، وفي نهاية المقال، رابط للحوار المتلفز)، على حواري مع كاتبنا الكردي جان دوست، على قناة ” شمس ” الكردية، باللغة العربية، في هولير، ومع الشكر هذا، أعتذر…

المحامي عبدالرحمن نجار   إن المؤتمر المزمع عقده في ١٨ نيسان في الجزيرة هو مؤتمر الأحزاب التي معظم قياداتها كانت تتهرب من ثوابت حق شعبنا الكوردي وفق القانون الدولي. وكانت برامجها دونية لاترقى إلى مصاف ومرتبة شعبنا الكوردي كشعب أصلي يعيش على أرضه التاريخية، وتحكم حقوقه القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، وتتجلى في حق تقرير المصير!. وحيث أن…

قهرمان مرعان آغا يحصل لغط كثير و تباين واضح ، مقصود أو جهل بإطلاق المصطلحات القانونية والسياسية، فيما يتعلق بالشعب الكوردي و حقوقه القومية و وطنه كوردستان ، تحديداً في كوردستان الغربية/ سوريا . هناك حقيقة جغرافية طبيعية و بشرية و حدود سياسية بأمر واقع في كوردستان ، الوطن المُجزء و المُقسَّم بين الدول الأربع ، تركيا ، ايران ،…