دلدار بدرخان
تصور معي عزيزي القارئ أنك تسكن مع أسرتك المكوّنة من خمسة أفراد في شقة داخل بناية تتألف من عدة طوابق، وتعيش فيها عائلات مختلفة، و لكل منها حجمها و عاداتها و تقاليدها ولغتها الخاصة بها، وبين هذه العائلات هناك أسرة عربية كبيرة يتجاوز عدد افرادها العشرة، وأما بقية الجيران فعدد أفراد أسرهم صغير، و يتراوح بين اثنين وثلاثة .
وفي أحد الأيام يأتي إليكم هذا الجار العربي الشريك الافتراضي في البناية ليقف في منتصف الباحة و ينادي بصوت جهوري “أيها الجيران من اليوم سأطلق على هذه البناية اسم ” بناية الأسرة العربية المتحدة” فأنا بأسرتي الكبيرة نشكّل الغالبية هنا في هذه البناية، ويحق لي أن أمنح البناية اسماً يعكس وجود اسرتي” متناسياً أن البناية لم تكن يوماً حكراً على أسرة بعينها، بل كانت موطناً للجميع، حيث تتعايش الأسر على اختلافها في ظل سقف واحد، و لكنّه لم يترك مجالاً للنقاش فقد اعتبر قراره نافذاً لمجرد أن أسرته أكبر عدداً .
ولم تمضِ أيام حتى يعود هذا الجار ليقول “بما أن هذه البناية أصبحت تحمل اسمنا فمن الطبيعي أن تكون لغتها الرسمية هي لغتنا، ومن الآن فصاعداً يُمنع الحديث بغير العربية في الممرات والمداخل والمصاعد، و كل الإعلانات واللافتات والتعليمات ستكون بالعربية فقط، ومن لا يجيدها عليه أن يتعلمها أو يلتزم الصمت.
ثم يعود الجار العربي بعد سنوات معتمداً على أغلبيته العددية ليعلن بصوت الواثق المتحكم “سأعين حارساً عربياً للبناية يسهر على أمنها ويحفظ نظامها وفق رؤية أسرتي” وذلك بهدف السيطرة والاستحواذ، لأن الحارس لن يكون مجرد مراقب محايد، بل عيناً ساهرة لحماية مصالح اسرته، و لينفّذ أوامرها ويغضّ الطرف عما تشاء، ويضيّق الخناق على من تراه خارجاً عن نهجها.
ثم يستمر الجار العربي في جبروته ليضيف بحزم “سأضع قوانين جديدة للبناية تعكس ثقافتنا ورؤيتنا ورغباتنا، ويجب على الجميع الالتزام بها، فمن نحن إن لم نحكم هذه البناية التي نشكل أغلبيتها؟، وبهذا لم تعد القوانين تعبر عن حاجة الجميع بل صارت مرآة لرغبات الأسرة العربية المهيمنة.
ومع مرور الأيام لا يتوقف الأمر عند اللغة، بل يبدأ بفرض نمط حياة جديد، و في الاجتماعات الشهرية لسكان البناية يقرر أن تكون جميع اللوائح متماشية مع ثقافة أسرته، فالموسيقى التي تُسمع في الممرات يجب أن تكون من تراثهم، والقنوات التي ستبث اخبار البناية يجب ان تكون عربية، والأطعمة التي تُطهى في المناسبات العامة يجب أن تكون مألوفة لهم، وأيّ احتفال أو تقليد مغاير يجب أن يكون في الخفاء، بل و يصل به الأمر إلى التحكم في الموارد، فالمياه الساخنة تُوزَّع أولاً على شقته، والإضاءة في الممرات تُطفأ متى شاء، والمصعد يتوقف في طابقه أولاً، وإن تعطّل فعلى باقي الاسر في البناية الانتظار لأن إصلاحه سيتم وفق أولويات اسرته التي تمتلك الاغلبية، وتوقيت فتح باب البناية وإغلاقها وأشياء اخرى لا يمكن حصرها تعود لاسرته .
وما أن يبدأ البعض بالتململ و يرفع صوته احتجاجاً حتى يأتي بالتحذير ليقول لهم “من لا يلتزم بالقوانين التي وضعتها فهو خائن وعميل وغايته تدمير البناية و إثارة الفتنة و تفتيتها وتقسيمها، لذلك لن يكون له مكانٌ بيننا، لأن هذه البناية هي بنايتي و أسرتي تمتلك الاغلبية فيها، و انتم البقية مجرد ضيوف عابرين ومجرد حالة طارئة، فمن أراد البقاء فعليه أن يتخلى عن خصوصيته وانتمائه وهويته لينصهر قسراً في هويتنا، و ينطق بلساننا، ويقبل العيش كظل بلا صوت، أو يغادر إلى المجهول، فيضمن بعمله هذا تحويل البناية من منزلٍ يحتضن الجميع إلى مملكةٍ يحكمها اسرته العربية، ولتصبح الأسر الأخرى ضيوفاً في منازلهم، و غرباء تحت سقفهم، و محاصرين في هويتهم، ومسلوب حقهم في القرار، ليصبحوا مجرد أرقام في معادلة القوة.
فهل هناك قانون أو شرع يجيز ما فعله هذا الجار والشريك ؟
هذه هي قصة الكوردي مع الجار والشريك العربي وما جاء في الذكر آنفاً هي صورة مصغرة لما يعيشه شعبنا الهائم على وجههه في ظل هيمنة من يظنون انفسهم الغالبية .