ريزان شيخموس
مع صدور “الإعلان الدستوري” في سوريا بتاريخ 13 آذار/مارس 2025، رُوّج له على أنه نقطة انطلاق نحو دولة جديدة، ودستور مؤقت يقود مرحلة انتقالية تُخرج البلاد من أزمتها العميقة. لكنه بالنسبة لي، كمواطن كردي عايش التهميش لعقود، لا يمكن قبوله بهذه البساطة. الإعلان يعيد إنتاج منطق الإقصاء والاحتكار السياسي، ويطرح رؤية أحادية لسوريا المستقبل، تفتقر للاعتراف بالتعدد، وللشراكة الحقيقية في صناعة المصير.
أولاً: “الجمهورية العربية السورية” – إقصاء يبدأ من الاسم
الإصرار على اسم الدولة “الجمهورية العربية السورية” ليس مجرد مسألة شكلية، بل هو مؤشر صريح على استمرار عقلية الدولة القومية الأحادية، التي لا ترى في السوريين غير العرب سوى مواطنين من الدرجة الثانية. هذا الاسم يُقصي الكرد وغيرهم من المكونات القومية من الهوية الدستورية، ويؤكد أن الدولة لا تزال تعرّف نفسها ضمن إطار عرقي، لا وطني جامع. كيف يمكن الحديث عن مساواة ومواطنة، بينما صيغة الاسم بحد ذاتها تُقصينا من الانتماء الرمزي للدولة؟
ثانيًا: تغييب صريح للكرد وحقوقهم المشروعة
رغم الترويج لهذا الإعلان كوثيقة انتقالية جامعة، إلا أنه يتجاهل تمامًا الشعب الكردي، الذي يشكل قومية رئيسية في سوريا، وله وجود تاريخي وثقافي واضح. لا ذكر للغة الكردية، ولا لأي شكل من أشكال الاعتراف القومي أو الإداري أو الثقافي. المواد التي تتحدث عن “التنوع الثقافي” أو “منع التمييز” تأتي بصيغة مبهمة، وتفتقر لأي التزام قانوني صريح يضمن حقوق الكرد، أو أي مكون آخر غير عربي، في مستقبل سوريا.
ثالثًا: غياب مبدأ “الشعب مصدر السلطات”
من أخطر نقاط القصور في الإعلان غياب مبدأ أن الشعب هو مصدر السلطات. الإعلان لا يشير صراحة إلى السيادة الشعبية، ولا يربط المرحلة الانتقالية بأي استفتاء عام أو تفويض شعبي. تم اختزال هذه المرحلة في مجموعة قرارات فوقية، ما ينذر بإمكانية فرض دستور دائم لاحقًا دون الرجوع للشعب، ويُفرغ العملية الدستورية من جوهرها الديمقراطي. سيادة الشعب ليست تفصيلًا تقنيًا، بل هي أساس شرعية الحكم في أي نظام حديث.
رابعًا: الفقه الإسلامي كمصدر رئيس للتشريع
جعل “الفقه الإسلامي” المصدر الرئيسي للتشريع يفتح الباب أمام أيديولوجيات دينية قد تتعارض مع مبدأ الدولة المدنية. هذا النص لا يقتصر فقط على منطلق عقائدي، بل يحمل أبعادًا سياسية خطيرة، خصوصًا في مجتمع متنوع دينيًا وقوميًا كالمجتمع السوري. الفقه، بمذاهبه المتعددة، لا يُمثل مرجعية موحدة، ويصعب تطبيقه كأداة تشريعية في دولة معاصرة. القوانين يجب أن تُبنى على مبادئ واضحة، مدنية، وضعية، تضمن الحريات ولا تميز بين الناس على أساس الدين أو الطائفة أو الجنس.
خامسًا: دين رئيس الدولة – تمييز دستوري
رغم أن الإعلان لم ينصّ على دين الدولة، إلا أنه ألزم بأن يكون دين رئيس الجمهورية هو الإسلام. هذا النص يُعيد ترسيخ التمييز الديني في أعلى منصب بالدولة، ويُقصي ملايين السوريين غير المسلمين من إمكانية الترشح للرئاسة. إن مبدأ المواطنة المتساوية يتطلب إزالة أي قيد ديني أو مذهبي من شروط تولي المناصب، فالدولة ليست عقيدة، والرئاسة وظيفة عامة، وليست امتدادًا لهوية دينية بعينها.
سادسًا: مركزية مفرطة وصلاحيات رئاسية شبه مطلقة
رغم الحديث عن فصل السلطات، يعيد الإعلان الدستوري تركيز جميع الصلاحيات في يد رئيس الجمهورية. من تعيين الحكومة، إلى الإشراف على المجلس التشريعي، وقيادة الجيش، والتدخل في القضاء، لا توجد سلطة حقيقية قادرة على موازنة هذه الصلاحيات أو مساءلتها. لا آلية لعزل الرئيس، ولا ضوابط على قراراته، ولا شروط واضحة لتولي المنصب. هكذا تُمنح السلطة التنفيذية صلاحيات بلا حدود، تحت غطاء إعلان مؤقت، وهو ما يعيد إنتاج منطق الدولة الأمنية والديكتاتورية.
سابعًا: تغييب مشروع اللامركزية
واحدة من أبرز مطالب الكرد ومكونات أخرى في سوريا كانت الدعوة إلى نظام لامركزي، أو حتى فيدرالي، يضمن توزيع السلطة والموارد، ويُعطي المجتمعات المحلية حق إدارة شؤونها. لكن الإعلان لم يتطرق إلى هذا الموضوع، بل أبقى على الصيغة المركزية للدولة، وهي الصيغة التي كانت من الأسباب الرئيسية لانفجار الوضع السوري أصلًا. لا حديث عن الحكم الذاتي، ولا عن المجالس المحلية المنتخبة، ولا عن أي نموذج إداري حديث يضمن شمول الجميع في عملية اتخاذ القرار.
ثامنًا: غياب الضمانات الحقيقية
الإعلان مليء بالتناقضات، وغامض في نقاط جوهرية. لم يحدد بدقة آلية صياغة الدستور الدائم، ولا كيف سيتم إقراره، ولا من هي الجهة المخولة بذلك. كما أن تحديد مدة المرحلة الانتقالية بخمس سنوات دون نص صريح يمنع التمديد يفتح المجال أمام بقاء “المرحلة المؤقتة” إلى أجل غير مسمى. هذا الغموض لا يبني الثقة، بل يفتح الباب أمام الاستفراد والاستمرار في الحكم خارج أي رقابة شعبية.
تاسعًا: غياب المخطط الزمني الواضح – تأبيد المرحلة الانتقالية
من أبرز المآخذ على هذا الإعلان غياب مخطط زمني واضح ومفصّل يحدد مراحل الانتقال، وآلية الانتقال من الوضع المؤقت إلى الدستور الدائم. الإعلان اكتفى بذكر مدة المرحلة الانتقالية بأنها خمس سنوات، لكنه لم يضع جدولًا زمنيًا لتنفيذ البنود الأساسية، مثل تشكيل اللجنة الدستورية، أو إجراء الاستفتاء الشعبي، أو تنظيم الانتخابات.
كما لم يوضح ما الذي سيحدث في حال عدم التوصل إلى دستور دائم خلال هذه المدة، وهل ستُمدد المرحلة الانتقالية تلقائيًا؟ ومن هي الجهة المخوّلة بتمديدها أو إغلاقها؟ هذا الغموض يهدد بتحوّل الإعلان إلى غطاء لحكم انتقالي مفتوح المدة، لا يخضع لأي مساءلة، ويعيدنا إلى عقلية “الاستثناء الدائم” التي عرفناها في الأنظمة الاستبدادية
خاتمة: إعلان بلا اعتراف ولا شراكة
لا يحتوي الإعلان الدستوري على أي اعتراف بالمكونات السورية وحقوقها المشروعة، وخاصة الشعب الكردي، الذي بقي مرة أخرى خارج النص، خارج القرار، وخارج الرؤية السياسية لسوريا المستقبل.
الإعلان يعاني من تناقضات جمة في الصياغة والمضمون، ولن أدخل في تفاصيلها الفنية والدستورية، فهذا من مهام الحقوقيين والمختصين. لكن كمواطن كردي، لي الحق أن أقول إنني لا أرى نفسي في هذا النص، ولا أجد فيه ما يستحق الثقة أو الالتزام.
أي مشروع سياسي لا يبدأ بالاعتراف بالناس، لا يمكن أن ينتهي إلى العدالة. وأي إعلان لا يعترف بالكرد، هو وثيقة ناقصة، لن تؤسس لسوريا جديدة، بل فقط لنسخة منقحة من ماضٍ ما زال يُطاردنا.