إلى أي درك كارثي تتهاوى سوريا؟ وفي أي مستنقع فكري تغرق؟

د. محمود عباس

 

أنقذوا سوريا قبل أن تُطْبِقَ عليها الظُلمات، قبل أن تتحول إلى كيانٍ معلقٍ في الفراغ، تتقاذفه الرياح العقائدية والتجاذبات الإقليمية والصراعات العالمية.

كيف لبلدٍ يمتلك إرثًا حضاريًا ضاربًا في جذور التاريخ أن ينحني أمام هذا الطوفان المريع من الابتذال الفكري والانحطاط الثقافي؟

 كيف لشعبٍ كان يومًا مركزًا للحضارة والتنوير أن يُختَزل إلى مجرد متلقٍّ لفكرٍ عقيمٍ، يُعيد إنتاج نفسه كآلةٍ عمياء لا تعي حجم الكارثة التي تترصدها؟

العالم منشغلٌ بتفاصيل معادلات الحرب والسلام:

قصفٌ أمريكيٌّ للحوثيين.

 عودة الحربٌ المدمّرة في غزة، ومئات القتلى بعد تعنت منظمة حماس وفشل الحوارات.

مكالمةٌ بين بوتين وترامب ترسم ملامح الصراع الروسي الأوكراني.

 مجازر مرعبة في الساحل السوري تستهدف المكون العلوي في ظلِّ صمتٍ مريبٍ من حكومة دمشق التي أسلمت روحها لهيئة تحرير الشام.

 غاراتٌ تركية إجرامية على قرى آمنة في جنوب كوباني بغربي كوردستان، وقتلها لأطفال أبرياء.

الشعب السوري يبحث عن مخرج من الصراع الداخلي الصامت والمروع بين مكونات المجتمع السوري والحكومة الانتقالية الإسلامية السنية المتطرفة، إلى جانب القوى الإقليمية الداعمة لها.

أزمات اقتصادية تتفاقم، توازنات عالمية تُعيد تشكيل خارطة الهيمنة والنفوذ، والقوى الكبرى ترسم مساراتها بدماء الشعوب ومصائرهم.

أوروبا منهمكة في الاستراتيجيات الدولية الاقتصادية والسياسية العصرية التي ستشكل الوجه الجديد للبشرية، ومن بينها تقديم مليارات الدولارات كمساعدات لسوريا.

وفي هذا المشهد المأساوي، تنهمك القنوات السورية في ثرثرةٍ عقيمة حول فتوى أصدرتها وزارة الأوقاف بشأن زكاة الفطر، وكأنها اكتشافٌ ميتافيزيقيٌّ جديد، أو كأنها تستحدثُ آيةً غير مسبوقة في القرآن، أو تنقب في نصٍّ لم يُؤوَّل بعد، متجاهلةً حقيقة أن هذه المسألة قد نوقشت مرارًا وتكرارًا منذ تأسيس الدولة الإسلامية وحتى يومنا هذا.

هل هذه هي قضية سوريا في زمن الخراب؟ هل هذه هي أولويات وطنٍ ينزف من أطرافه، ويتآكله الفساد، وتفترسه التدخلات الخارجية؟

أي دركٍ فكريٍّ تنحدر إليه سوريا؟ أي مستقبلٍ تنتظر هذه الأرض المثقلة بتاريخها العريق؟
إنها ليست مجرد أزمة نظامٍ سياسيٍّ أو حُكمٍ استبداديٍّ، بل مأساةٌ حضارية، سقوطٌ في براثن الرداءة والجمود، حيث يُستبدل الفكر النقدي بالحفظ والتلقين، ويُستبدل الحوار بالتكفير، ويُستبدل النهوض بالغرق في جدليات عقيمة لا تزيد الوطن إلا خرابًا.

كيف يمكن لإنسانٍ عاقلٍ، يمتلك أدنى مستوى من الوعي، أن يتنفس في هذا المناخ الثقافي الخانق؟ كيف يمكن أن ينجو فكرٌ حرٌّ في ظل هذه الرداءة المعممة، وهذه السطحية المتفشية، وهذه الهرطقة المقدسة التي تجعل من العقل محرَّمًا، ومن السؤال جريمة، ومن التمرد كفرًا؟

سوريا تُزَفُّ إلى مصيرٍ مظلم، تُساق إلى هاويةٍ يصعب أن تقوم منها. المستقبل قاتم، والنجاة شبه مستحيلة، إلا لمن استطاع أن يحمل عقله ويهرب.

 

د. محمود عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

18/3/2025

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…