إبراهيم اليوسف
لقد أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي، في وقتنا المعاصر، منصات عالمية تتيح لجميعنا التعبير عن آرائنا، مهما كانت هذه الآراء إيجابية أو سلبية. لكن هناك ظاهرة جديدة تتجسد في ما يمكن أن نسميه “إطلاق النار الاستباقي”، وهو الهجوم أو النقد في صورته المشوهة الذي يستهدف أي فكرة أو عمل قبل أن يرى النور. لا تقتصر هذه الظاهرة على الكتاب أو الفنانين فقط، بل تتعداها لتشمل كل مجالات الحياة الاجتماعية والثقافية، من الحملات الإنسانية إلى المهرجانات الأدبية والفنية. فما هو السبب وراء هذا السلوك؟ ولماذا يميل بعضهم إلى إطلاق النار على الأفكار والأعمال قبل أن تتحقق أو تكون واضحة للجميع؟
مفهوم “إطلاق النار الاستباقي“
“إطلاق النار الاستباقي” هو بمثابة حكم مسبق أو نقد لاذع يُوجه إلى فكرة أو مشروع قبل أن يكون له فرصة ليظهر بشكل كامل. ومن الأمثلة الشائعة على ذلك ما يحدث عندما يطرح شخص ما فكرة جديدة في مجال الأدب أو الفن، فيتعرض هو ومشروعه مباشرة لهجوم من قبل بعض الأفراد الذين يبدؤون في التشكيك بالفكرة أو استهداف صاحبها، رغم أنهم لم يطلعوا على العمل ولم يلمسوا أبعاده. هذه الظاهرة أصبحت متفشية بشكل خاص على منصات وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يسهل التعليق على أي شيء دون معرفة حقيقية بجوهره.
دور النقد الحقيقي مهم جداً
النقد الحقيقي يعد عنصراً أساسياً في تطور الفكر والثقافة. فهو لا يتوجه بهدف الهدم أو التشويه، بل يسعى إلى البناء والتحفيز على التفكير العميق. يختلف النقد البنّاء عن الهجوم الاستباقي في أنه يعتمد على فحص الفكرة أو العمل بموضوعية وعمق قبل إصدار الحكم. النقد الحقيقي يوجه الضوء على الجوانب الإيجابية والسلبية في العمل، ويشجع على تحسينه وتطويره، مما يساعد في تطوره وصولاً إلى أفق أكبر. من خلال النقد الصادق والواعي، يمكننا فهم الأبعاد المختلفة للأفكار والأعمال، ومعالجة الأخطاء وتحقيق التقدم.
علم النفس وراء “إطلاق النار الاستباقي“
في علم النفس، يمكن تفسير هذا السلوك على أنه ناتج عن شعور عميق بالغيرة أو الخوف من التميز. عندما يرى بعضهم شخصًا يحقق تقدمًا ما أو يبرز بفكرة جديدة، فيشعر هؤلاء بتهديد قد يزعزع مكانتهم الاجتماعية أو الثقافية. نتيجة لذلك، فهم يبدؤون في الهجوم على هذا الشخص أو العمل قبل أن يكون له تأثير ملموس. هذا الهجوم المبكر يخفف من شعورهم بالعجز أو القلق ويشعرهم بأنهم ما زالوا في موقع القوة.، بعد تفريغ- شحنات- مكبوتاتهم!
ولابد قبل كل شيء من معرفة أن هناك أيضًا تفسيرات تتعلق بالحاجة إلى السيطرة أو التفوق على الآخرين، من قبل بعض هؤلاء. من خلال التقليل من قيمة النتاج أو المنتج، إذ يحاول بعضهم الحفاظ على سلطتهم أو مكانتهم في المجموعة. وهذه الظاهرة تجدها غالبًا في المجتمعات التي تنظر إلى التميز والابتكار كتهديد، أو التي تفضل الحفاظ على النظام الحالي على حساب التجديد والاختلاف، أو أن بعض الفاشلين من أصحاب هذا الكار أو ذاك ينصرف إلى هكذا أعمال مشينة، بل إن هناك من يحرض بعض هؤلاء، أو من يكتري بعض غيرالمسؤولين عما يبدر منهم لأداء هذه المهمات غيرالمشرفة للطرفين، ويظل بعض هؤلاء معروفاً للقاصي والداني، ضمن هذا الوسط أو ذاك.
إضافة إلى كل ذلك، يعكس هذا السلوك نزعة إلى ما يسمى بـ “النفور من المجهول”. في كثير من الأحيان، يشعر الناس بعدم الراحة تجاه ما هو غير مألوف أو مختلف. والابتكارات الثقافية والفنية تُمثل بالنسبة لهم تهديدًا لذلك النظام المألوف الذي يتقاسمونه، ولهذا يلجؤون إلى الهجوم الاستباقي على كل جديد كطريقة لحماية أنفسهم من هذه التغيرات.
وسائل التواصل الاجتماعي كحافز للظاهرة
تُعتبر وسائل التواصل الاجتماعي هي البيئة المثالية لانتشار هذه الظاهرة. فهذه المنصات تمنح جميعنا صوتًا وفضاءً للظهور والتعبير عن آرائنا دون الحاجة إلى التفاعل المباشر أو المسؤولية المترتبة على قول شيء في محيط اجتماعي ملموس. لذلك، تصبح المسافة بين الشخص والآخرين في العالم الافتراضي سببًا في غياب الاعتبارات الإنسانية التي يجب أن ترافق أي نقاش نقدي.
أجل، في هذه البيئة الرقمية، يميل البعض إلى الهجوم على كل ما هو جديد أو مختلف، حتى قبل أن يتفاعلوا معه بشكل عميق. فعلى سبيل المثال، حين يُطلق شخص حملة تبرعات أو يطلق مشروعًا إنسانيًا، يجد نفسه عرضة للهجوم من أشخاص يطلقون عليه تهمًا مثل ما يتم ليس إلا “مزايدات فيسبوكية” أو “البحث عن الشهرة” في محاولة إفشال مشاريع مهمة. هؤلاء الأشخاص غالبًا ما يملكون صورة نمطية عن الآخرين، ولا يتحلون بالصبر لمراقبة النتائج الفعلية للمشاريع أو الأفكار قبل إصدار الحكم.
تتغذى هذه الظاهرة من حالة القلق التي يعيشها العديد من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي. فتحت سطوة الإعلانات الدائمة والصورة المثالية التي تُعرض على هذه المنصات، يشعر بعضهم بالحاجة الماسة إلى إثبات مكانتهم، فيلجؤون إلى الهجوم على أي شخص يظهر بمظهر مميز. هذا الهجوم يعكس في جزء منه حالة من الشعور بالعجز أمام عالم يتطور بسرعة، حيث تحاول هذه التعليقات الاستباقية أن تسيطر على مجريات الأحداث قبل أن تتحقق.
الابتعاد عن عالم التواصل الاجتماعي بسبب تلوثه: خسارة للمواهب والمشاريع
في ظل تزايد حالات الهجوم والانتقاد الاستباقي على وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح بعض الموهوبين والمبدعين في مختلف المجالات يختارون الابتعاد عن هذه المنصات، نظرًا لما تشهده من تلوث فكري وعاطفي. هؤلاء الأشخاص الذين كانوا في يوم من الأيام يقدمون مشاريعهم وأفكارهم الجديدة عبر هذه الوسائل، أصبحوا يواجهون بشكل مستمر موجات من التشويه والهجوم غير المبرر. هذا الواقع دفع العديد منهم إلى اتخاذ قرار شجاع بترك هذه المنصات ووقف مشاريعهم.
هناك العديد من الأمثلة على مبدعين وموهوبين في مجالات الكتابة والفن والموسيقى والمسرح الذين اختاروا الانسحاب من عالم التواصل الاجتماعي. هؤلاء المبدعون شعروا أن هذه الوسائل لم تعد مكانًا مناسبًا للتفاعل مع جمهورهم، بل تحولت إلى ساحة مفتوحة للإساءات والهجمات التي لا تمت للعمل الإبداعي بصلة. البعض منهم تعرضوا لهجوم شخصي لا يمكن تحمله، فيما قرر آخرون كف يدهم عن مشاريعهم بسبب الهجوم المستمر والتشويه الذي طالهم.
الكثير من هؤلاء الموهوبين لم يعودوا قادرين على تحمل النقد الجارح والتعليقات التي تركز فقط على الجانب السلبي، بينما يتم تجاهل أي قيمة إيجابية في أعمالهم. مشاريع أدبية وفنية، كان من الممكن أن تكون لها تأثيرات إيجابية على المجتمع، توقفت أو تم التراجع عنها بسبب هذه البيئة السامة. التهديد بالإساءة أو التشويه الشخصي جعل العديد من المبدعين يفكرون مليًا قبل نشر أي فكرة أو عمل جديد، وفي بعض الحالات، قرروا التوقف عن تقديم أي جديد بشكل نهائي.
إن هذه الخسارة لا تقتصر فقط على الأفراد الذين يتعرضون للهجوم، بل تؤثر بشكل أوسع على المجتمع بأسره، الذي يفقد فرصًا لتطوير نفسه ثقافيًا وفنيًا. فبدلاً من أن تكون وسائل التواصل الاجتماعي وسيلة للإثراء والتفاعل المثمر، تتحول في بعض الأحيان إلى أداة لتدمير الإبداع والطموحات.
الجانب الفلسفي للنقد الاستباقي
من زاوية فلسفية، يمكن اعتبار هذا السلوك تعبيرًا عن قوى الحيرة والشك في النفس البشرية. فعندما يهاجم بعض هؤلاء فكرة أو عملًا قبل أن يتعرفوا على محتواهما أو نتائجهما، فإنهم لا يهاجمون الفكرة أو العمل ذاتيهما، بل يهاجمون خوفهم من التغيير أو الاختلاف. وهذه نزعة معروفة في الفلسفة الوجودية التي ترى أن الإنسان، في مواجهة المجهول أو التغيير، ينزع إلى الانغلاق على ذاته والمقاومة لما هو جديد. لذا، فإن الهجوم على الأفكار الجديدة أو الأعمال المبدعة قبل ظهورها هو في الحقيقة رد فعل على القلق من المجهول وعدم القدرة على التكيف مع التغيير.
نقد الذات والآخر في السياق الثقافي
لا يمكننا إغفال الجانب الثقافي في هذه الظاهرة. فعادة ما ترتبط هذه الهجمات بفكرة “النقد البسيط” الذي يرفض الفكرة لمجرد كونها جديدة أو غير مألوفة. وهذا يرتبط بمفهوم ثقافي شائع يرى أن كل شيء جديد يجب أن يخضع لاختبارات صارمة قبل قبوله. في هذا السياق، يرفض البعض أي فكرة أو مشروع ثقافي جديد لأنه يتعارض مع المألوف أو التقليدي. وهذا يعني أن التصور الثقافي للأشياء يتحكم في استقبالها، وأن كل تغيير أو تطوير يُنظر إليه بعين الشك وعدم الثقة.
إن “إطلاق النار الاستباقي” هو ظاهرة معقدة تتقاطع فيها جوانب نفسية، فلسفية، وثقافية. إنه سلوك يعكس الخوف من التغيير والرغبة في الحفاظ على الوضع الراهن، وهو يتغذى من قوة وسائل التواصل الاجتماعي التي تُتيح للأفراد التعبير عن آرائهم دون مسؤولية أو فحص عميق لما يكتبونه. في عالم مليء بالتغييرات السريعة والصورة المثالية، يبقى البعض في حالة دفاع دائم ضد الأفكار الجديدة، ويستبقون الأحكام ليتجنبوا الشعور بالعجز أو الفقدان. في النهاية، لابد من مواجهة هذه الظاهرة بمحاكمة أعمق للنوايا الكامنة وراء النقد، وتقديم مساحة للأفكار والابتكارات كي تنمو وتكتمل بعيدًا عن التشكيك المسبق.