أحجية السلطة والدماء: سردية القمع في مرايا التاريخ التركي

 بوتان زيباري

 

في دهاليز السلطة، حيث تتهامس الأقدار وتتصارع الإرادات، تُحاك خيوط اللعبة السياسية ببراعة الحكّاء الذي يعيد سرد المأساة ذاتها بلغة جديدة. تُشبه تركيا اليوم مسرحًا تراجيديًا تُعاد كتابة فصوله بأقلام القوة الغاشمة، حيث تُختزل الديمقراطية إلى مجرد ظلٍّ يلوح في خطابٍ مُزيّف، بينما تُحضَر في الخفاء عُدّة القمع بأدواتٍ قانونيةٍ مُتقَنة. إنها سردية قديمة جديدة، تتناسخ فيها روح “الاتحاد والترقي” تحت عباءة “الاتحادوية الجديدة”، حيث تُستَخدم الإصلاحات كفخاخٍ للشراك، والأمل كطُعمٍ للانقضاض.

 

لطالما كانت الإمبراطوريات العتيقة، ومن بعدها الدول الحديثة، تُلاعب التناقضات كفنانٍ يُحرّك خيوط الماريونيت. ففي أواخر العهد العثماني، حين أُطلِق “الإصلاح العربي” كتعويذةٍ للوحدة، تحوّل الحلم إلى كابوسٍ بدمٍ بارد: أُقصي المطالبون بالحقوق، وعلِقت أصواتهم على أعواد المشانق، فانفجر الشرر الأول للانفصال. لم تكن تلك سوى حلقة في سلسلةٍ دامية: فالإصلاحات الأرمنية، التي وُلدت تحت ضغوط القوى العظمى، تحوّلت إلى مذابحَ جماعيةٍ طمست وجودًا كاملًا. التاريخ هنا ليس سِجلًّا للأحداث، بل مرآةٌ تعكس نمطًا متكررًا: رفع سقف التوقعات، ثم سحقه بكلّيةٍ لا ترحم.

 

وفي العصر الحديث، تلوح تركيا كمسرحٍ للدراما ذاتها. فبين عامَي 2000 و2010، ارتسمت ملامح “الربيع التركي” مع طموح الانضمام للاتحاد الأوروبي، حيث تدفّقت رياح الإصلاحات القانونية والاقتصادية. لكنّ الربيع لم يدم، فما إن تشبّث أردوغان بمفردات السلطة، حتى انقلب المسار: أُغلِقت الأبواب الواسعة، وحلّ محلّها نظامٌ رئاسيٌ فرديٌ يُذكّر بعهد السلاطين. حتى “عملية السلام” مع الأكراد (2012-2015)، التي أُلبِست ثوب المصالحة، تحوّلت إلى عاصفةٍ عسكريةٍ دمّرت مدنًا بأكملها، وكأنّ الأرض تئنّ تحت وطأة التاريخ الذي لا يرحم.

 

اليوم، يعود المشهد بثيابٍ جديدة. فاعتقال أكرم إمام أوغلو، رمز المعارضة البازغ، ليس سوى ضربةٍ في سيمفونية القمع. فالقضاء، الذي يفترض به أن يكون حارس العدالة، تحوّل إلى سيفٍ مسلولٍ على رقاب الخصوم. لكنّ اللعبة الأكثر إيلامًا تكمن في الملفات القضائية المُعدّة ضد آلاف الأكراد: أسماءٌ تُنسج من هواء التهم، وحيواتٌ تُختزل إلى أرقامٍ في سجلات النيابة. إنها إستراتيجية التفتيت: تفريق المجتمع إلى فسيفساءٍ متناثرة، لتبتلعها السلطة قطعةً قطعة.

 

هنا تبرز المفارقة المأساوية: فبينما تُعلن الأنظمة عن “عمليات تطبيع” و”حوارات وطنية”، تُحاك في الظلام شباك الاعتقالات. إنه نمطٌ يعيد إنتاج نفسه كأسطورة سيزيف: فالإصلاحات العربية، والأرمنية، ومسار الاتحاد الأوروبي، وعمليات السلام الكردية، كلّها تشترك في النهاية الدامية. فهل يمكن للشعب أن يكسر هذه الحلقة؟ التاريخ يُقدّم إجابةً مُرّة: فحتى الآن، تنتصر الآلة القمعية حين تفتقد المقاومة لروايةٍ موحّدة.

 

لكنّ الأمل، كالنبتة الشوكية، ينبت في أصعب الظروف. فالشباب الذين يخرجون إلى الشوارع، رغم تجاهل الإعلام المهيمن، يكتبون فصولًا جديدةً من السردية. إنهم الوجه الآخر للتاريخ: فمن مجازر الأرمن إلى انتفاضات الأكراد، تظلّ إرادة الحياة أقوى من أدوات الموت. ربما لن تُكتب النهاية قريبًا، لكنّ كل خطوةٍ في درب المقاومة تُذكّر السلطة بأنّ الشعوب، رغم جراحها، لا تنسى.

السويد

06.04.2025

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…