حديث موجز عن الأنقاض «عفرين وجنديرس، وأبعد منهما، نموذجاً زلزالياً»
التاريخ: الخميس 09 شباط 2023
الموضوع: اخبار



 إبراهيم محمود

ماالذي ترينا الأنقاض إياه؟ ماالذي يمكننا تخيله من خلالها. قديماً، كما هو مقروء في أدبيات الشعر العربي القديم، كان الشاعر يقف على الأطلال، يرثي من كانوا أهليها، وهي عمران طافح بالحياة، ويتخيل مجتمع ما قبل الأطلال، والحيوات فيها، وما أكثر ما رأيناه ونراه بوصفه: طللاً، وأطلالاً بالجمع، في قرانا جهة " روجآفا كردستان " وقد تداعت أغلبية بيوتها، أو تُركت لتصاريف الطبيعة والزمان، أو تركها أهلوها وراءهم أطلالاً أو خرابة  kavil،علامة فارقة ولافتة وبصمة مكانية دالة على من كانوا ذات يوم، ولهم حياتهم، مناسباتهم، وعلاقاتهم...إلخ


كان من السهل في الحالة هذه تخيل حيوات مختلفة، متباينة ومتنوعة في مشهد الأطلال المألوفة في قرانا لأسباب كثيرة، وما أكثرها وهي طينية، وهي تنطوي على نفسها، مكتومة، متكتمة على ماض لا يفصَح عنه، وليس من إمكان لاستنطاقه، بمقدار ما تكون مجهولة من جهة من كانوا أصحاباً لها، إنما الشيء الوحيد الذي يؤكَّد عليه هنا، هو أنها تلتصق بالأرض، أو تسوَّى بها، دون وجود فاصل، أو فراغ، وإن وجِد، فليس سوى الهواء إجمالاً يعبُره من أكثر من جهة .
إنما ماذا تعني الأطلال الأخرى، ونحن نتحدث عن مقاماتها، عن تصنيفاتها ومحتوياتها، حيث تكون ذاكرة المكان مختلفة اختلافاً كاملاً، وحيث يفترض واجب الذاكرة علينا النظر فيها بخشوع، فهي أبعد ما تكون مجرد أطلال، إنما ما يأسرنا في فجيعة الكامن القسري فيها.
أعني بها وهي شاهدة على جرائم مرتكبة، وليس لأن الزمن هو المتصرف بها، وعلى نكبات أو ما يُسمى بـ " الكوارث الطبيعية " كانت سبباً في حدوثها وظهورها لوحات غاية في الرعب.
إنه نوع آخر، رهيب، وباعث على الخوف في عصرنا الحديث بصورة مؤكَّزة، وهذا النوع بات موضوعاً حياً لدراسات مكانية أنثروبولوجية تماما. أشير هنا إلى ما استرسل فيه رمز أنثروبولوجي معاصر وله مكانته المعتبَرة، وهو مارك أوجيه، وفي كتابه الشديد الأهمية، والمعنوَن بـ " الزمن أطلالاً  Le tempe en ruines، المنشور فرنسياً منذ عام 2003، وعربياً ترجمةَ في عام 2016، صادراً عن هيئة البحرين للثقافة والآثار.
حيث نقرأ في الاستهلال:
( إن رؤية الأطلال، تجعلنا بسرعة نستشعر زمناً غير ذاك الذي تكلمت عنه كتب التاريخ أو ذاك الذي تحاول عمليات الترميم أن تحييه. إنه زمن خالص عصيّ على التأريخ، وغائب عن عالمنا الطافح بالصور والمخايلات والتشكيلات المجددَّدة، عن عالمنا العنيف الذي لا يتسع الوقت فيه للأنقاض كي تصبح أطلالاً. إنه زمن ضائع يسعى الفن إلى أن يعثر عليه . ص 7 ).
إنما الأهم في الموضوع الذي ننشغل به هنا، هو ما يصلنا بكتب أخرى شديدة القرب مما نعيشه كارثياً هذه الأيام مع زلزال " قهرمان مرش في تركيا: 5-6 شباط 2023 " وامتدادات تأثيره المدمرة إلى مسافات بعيدة، وفي الجهات الأربع، ولو بتفاوت في الضحايا والأضرار المادية وغيرها، هو ما نقرأه في كتب أخرى حال كتاب إيمانويل داشين: LE TEMPS DES RUINES: 1914-1921، أي زمن الأطلال أو الخرائب، وصدر بلغته الفرنسية سنة 2019، ومما هو مسطور على الغلاف الخارجي، أنقله لعمق الموسوم فيها:
)   الحرب العالمية الأولى،  لم تكن هي الحرب الأولى التي تم تصويرها ، لكنها كانت بالتأكيد الأكثر تصويرًا لحروب القرن التاسع عشر. ومن بين جميع الصور التي التقطت خلال هذه الفترة ، تحتل الأطلال - ولا سيما آثار التراث المعماري المدمر - مكانًا خاصًا.
إذ منذ بداية هذا الصراع ، استغلت الدعاية الفرنسية وجهات نظر الدمار، وخاصة تلك المتعلقة بالمباني الثقافية ، وأصبحت دليلًا ماديًا يوضح الخطب التي تسلط الضوء على "بربرية" المحتل الألماني. ولقد مهدت الطريق لحرب صور، حرب داخل حرب، احتفى أحد جوانبها بفقدان التراث المعماري.
وفي الوقت نفسه، تم تطوير التفكير في الحفاظ على آثار الحرب وتأسيس السياحة في ساحة المعركة. في الواقع ، في مواجهة تراكم الأنقاض المادية في منطقة الجيوش ، ظهرت بشكل حاد أسئلة التعويض وتقييم بعض الآثار. وبالمثل ، كان ينظر إلى منطقة القتال في وقت مبكر من قبل المشاركين في التنمية السياحية وأعضاء الحكومة الفرنسية على أنها مساحة مقدسة ، عاد السلام نحوها ، وكان لابد من تنظيم رحلات الحج من جميع أنحاء فرنسا ، وأوربا، ولكن أيضًا من أمريكا و أوقيانوسيا.
يهدف زمن الأطلال/ الخرائب " إلى تسليط الضوء على ما كان يعنيه تدمير الحرب لمعاصري عام 1914 وبشكل أكثر تحديدًا الطريقة التي استولى بها المجتمع الفرنسي على تمثيلات الأنقاض هذه لجعلها رمزًا للألم...).
نكون في الحالة المأتي على ذكرها، بين الحاصل طللاً بفعل أقرب إلى الطبيعة، مع الزمن، وليس ما يُسمى بـ " الأنقاض " إن أخلصنا لدلالة الكلمة، وكيف تكون هكذا، وليس أطلالاً.
الأنقاض توجيه الأنظار إلى حادث مدبر، أو شبه مدبر، حادث للسياسة لها بصمة فيه، بينما في حال الأطلال والتي تستغرق زمناً، فهي في براءة معتبَرة، وبصورة ما، من خاصية الأولى.
ولحظة الحديث عن الأطلال، وهنا، فبتحفظ، أي جهة السرعة التي تحيل البناء العالي قبل سواه، أنقاضاً، وهذه مع الزمن تستحيل أطلالاً، أو تكون أطلالاً في التو، دون نسيان رعب التسرع في التشكيل الرهيب والمهدد لمن هم في الجوار أنفسهم، وبزمن محتسب.
وفي حيثيات الزلزال وتبعاته ما يوسّع خريطة الكارثة قبله وبعده، ليس في الحديث المحصور في نطاقه، إنما ما يعمّق اقتفاء الأثر في ما قبل وما بعد، في الجغرافية التي نعيش فيها ونتأثر بتداعيات الأحداث فيها، وما أكثرها تعبيراً عن العنف الموصول بالإرهاب منذ أكثر من عقد زمني طبعاً، في سوريا وخارجها، وتأثير كل ذلك على أوضاع الناس ومحنهم هنا وهناك.
وحين أركّز على كل من عفرين وفي الجوار الجغرافي الحميم لها: جنديرس، واستدعاء مشاهد الدمار الحاصل في كل منهما، وأبعدَ، تحت وطأة الصدمة الزلزالية وارتدادتها الهزاتية المميتة، فلأن الذي يقرّأ في " سيماء " كل منهما، يحيل الأنقاض إلى شهود عيان على الكارثي المضاعف بالتأكيد، فهي وإن شوهدت في زمن متسارع وقد تداعت، وفي تداعيها الكثير من إزهاق الأرواح والإصابات والخسائر...ألخ، فإن ذلك لا يترك الحاصل لحساب الطبيعة وتحميلها وحدها وزْر الحادث، إنما ثمة ما يدفع بنا إلى السابق على ذلك، لحظة التذكير بأهل المكان الواسع جغرافياً، أي عفرين والمدن والبلدات والقرة المجاورة بخاصيتها الكردية على وجه التخصيص، وكيف انتهاكها من قبل تركيا والمعتبرين فصائل مسلحة تخص المسمى أيضاً م يُسمون بـ " المعارضة السورية " أو " الجيش الحر " وتلك القائمة الطويلة من المدمرات التي حملتها معها وأودعتها هذه الجغرافية المعلومة بكرديتها: انتهاك حرمات، وتهجيراً، وتنكيلاً بالأهالي، وأسراً، ومصادرة أموال، وإجراء تغيير ديموغرافي في المكان، وممارسة إرهاب مميت، والسعي إلى تغيير معالم البيئة الجغرافية سكانياً، وحتى نباتياً: الجينوسايد البيئي والثقافي والآثاري...إلخ .
ولتكون المفارقة كبيرة ولها أكثر من مغزى، جهة التاريخ وذاكرة المكان الجماعية، بالنسبة للذين خططوا لاحتلال المكان بكل ما فيه وعليه،  كما لو أن المكان خال، وهم الجديرون به، وما يدخل في قائمة التوصيفات العميقة الأثر في توصيف المكان وأهليه بكل ما هو مشرعَن في استئصالهم.
وهي المفارقة التي تبلغ أوجها في مساعي محتلي المكان وتحت إشراف من انتهك وينتهك حدودهم تركيا، إلى المسمى بـ " استصراخ الضمير العالمي " ومن أصحاب النخوة، ودلالة هذا الاستصراخ في طلب النجدة، لانتشال من هم تحت الأنقاض من أهليهم أو ذويهم. وما يعنيه الظلم هنا، واللاظلم هناك، الموت هنا والموت هناك، الخراب هنا والخراب هناك ..
المفارقة الأكثر حضوراً بدرسها التاريخي والسياسي، هو في سعي تركيا، وعلى صعيد سياسي موجَّه، تجاهل هذه الاستغاثات في النطاق الحدودي الذي اجتاحته قواتها وأتباعها السوريون من المعارضة، وحتى السعي إلى منع تقديم المساعدة بمختلف أنواعها، وبالتوازي مع الدعم المكثف من المساعدات وعروض الدعم المختلفة من دول العالم" الأوربية وغيرها " لتركيا، وتجاهل المناطق المكنوبة في عفرين وجنديرس وفي الجوار. هكذا تكون القوة مالكة زمام الحق ؟!
بالطريقة هذه يمكننا الحديث عن الأطلال وكيف أنها تشهد في النطاق المؤثّر الزلزالي على رعب الحاصل: خراب، أو دمار مأخوذ بالأحمر، جرّاء القصف " من فوق " أي حيث تكون الحرب الجوية قائمة في ضرب من يعتبَر معارضاً، أو من باب التأديب لتفعيل أثر العنف المبرمج أكثر، وجرّاء " القصف " الموجه تحت ضغط متفجر زلزالياً " من تحت " لنكون إزاء توأم دمار وخراب وعنف بأنواعه المختلفة، وضحاياه بتنوع فئاتهم وانتماءاتهم هذه المرة، درساً بليغاً عما تعنيه الأطلال التي لا يستغرق حدوثها زمن كاف" طبيعي " فالزمن هنا لا علاقة له بالزمن الذي نعيشه، مع الحاصل طللاً إثر مرور زمن معلوم، قد يستغرق سنوات أحياناً، ودون وجود من يمكن النظر في أمره: ضحية هذا الطلل. أما هنا، فهي أبعد من أن تكون أطلالاً كندتها سابقاً، إنما بحكم المصنَّع أو الجاري النظر في أمره مسبقاً أحياناً، إذا دققنا في حساب المتعاملين مع نوعية هذه الأبنية التي شيّدت وكيفية إدارتها، وماذا كان الزلزال في أصله ذا نسَب " أمومي " طبيعي، وليس " أبوياً " متغطرساً، يحمل ضغينة مخطَّط لها، في واقعة مستحدثة، أو تسهيل فعلها.
أهلنا الكرد، كما عاشوا الزلزال المروع بتوجيه تركي صحبة فصائله المسلحة من المعارضة السورية، وكيفية توجيههم بما يخرج المكان المعلوم بأسمائه الكردية إلى نقيضها. عاشوا رعب هذه الكارثة التي تشكل حلقة في سلسلة من حلقات الإلغاء والأقصاء والموت والنفي والتهجير، لمن تشهد الأرض على عراقة تاريخهم المكاني ، المكان الذي يتكلم لغتهم عموماً. وها هي " تتلقى " دعماً مضاعف في عنفه وحصاده المميت والمخيف والمدمر بعائده الزلزالي.
وما في الإمكان وجواز تأكيد ما ذهب إليه الشاعر أديب إسحق:
قتل امرء في غاية    جريمة لا تغتفَر
وقتل شعب آمــــن    مسألة فيها نظر 
وهو ما نتلمسه بشكل ملحوظ، وطرق المتاجرة السافرة بالسياسة ، وأرواح الملايين من العباد، فقط لأن هناك من يقدّم نفسه، على الآخرين، ويرى في العنف المعتمَد سبيلاً لهذا التفضيل. 
في الأنقاض التي تستجيب سريعاً لحدثها ولميتاتها ثمة ما يبلبل الوعي واللسان، لأن القوة القائمة دالة على ذلك، ومن مازالوا تحت الأنقاض إلى هذه اللحظة، من الصعب جداً توقع خروجهم أو انتشالهم أحياء، وفي الظروف المناخية الغاية في الإيلام، ومنذ يوم " 5 " شباط إلى الآن.
نعم، بين عفرين وجنديرس، ثمة الكثير مما يمكن استعراضه، وما أكثر المشاهد المنقولة، ما أكثر الصور التي يصعب تحمل المجسَّد فيها، وهي بأبعادها الثلاثة، حيث من الصعب بمكان متابعة كل ما يجري وضمن مسافات متباعدة، وربط الحاصل موتاً وخراباً وحقيقة الواقع، بما جرى وكيفية سريان فعل الزلزال المسمى، وبؤرة توتره " مركزه " والخفي في " اللعبة " المركَّبة.
صوت أي مستغيث أو مستغيثة تسمع، وصورة أي مستغيث أو مستغيثة ترى، وتركز على أي مبنى بأطلاله والمعرضين للموت التدريخي ومعايشة الآلام، وفي الخارج من هم في العراء، أو تحت رحمة البرد وخلافه، وهم يبكون  أهليهم، عائلاتهم، أحبتهم، ومصدومون بكل ذلك.
في أي جهة يمكن النظر، وإلى أي حامل قوة مؤثرة يمكن توجيه الأنظار، على أمل أن كارثة كهذه يمكنها أن تعلّم من يمارسون سياسات لا أكثر منها إيغالاً في العنف وتفعيل أثره، واسترجاع الوعي الذي يعلِم بأن العنف المعهود يسمي ضحاياه، ولكنه لا يترك" جلاده " عن المحاسبة مستقبلاً، كما يخبرنا التاريخ في مختلف لغاته.
في حديث الأطلال، ثمة الكثير، ومما يستحيل الإحاطة به، من مستدعيات ما هو أخلاقي وشرعنة الأخلاقي مكانياً، وعلى صعيد دولي، ومركز التوتر الزلزالي القائم راهناً: تركيا، ومن يمثّلها سلطوياً، فهل سنشهد وعياً يفك ارتباطه بسلفه حتى الأمس القريب، استجابة لوطأة كارثة كهذه، والخراب المفعَّل، أم سيكون هناك استمرار، وما في ذلك من تأكيد على أن المأهول بالعنف الجانبي، لا حد لعنفه وتغطرسه، إلا بنهايته ومن يفكر على طريقته، أنّى كان، وحيثما كان !!؟؟







أتى هذا المقال من Welatê Me
http://www.welateme.net/erebi

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=28994