كاتب من دون كتاب! في رحيل مصطفى آغا دقوري
التاريخ: الثلاثاء 24 اب 2021
الموضوع: اخبار



إبراهيم اليوسف

أعترف، قليلة هي المرات التي التقيته فيها، إلا إن هناك من يستطيعون التواشج الروحي معنا، وإن لم يكن بيننا سوى لقاء واحد، في طائرة، أو في باص بين مدينة أو أخرى، أو حتى في حافلة نقل داخلي، أو حتى في موقف لحافلات النقل الداخلي تتبادل معهم التحية أو حتى الابتسامة ليظل أثر ذلك من دون أن يمحى. ثمة كثيرون من هذا القبيل أراهم مقربين، وإن كان من سأتحدث عنه- مصطفى هادي آغا دقوري 1935-2021- مختلفاً، إذ دخلت بيته عن طريق نجله: عبدالله. عضو مجلس أمناءمنظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف، في دورتها الأولى، و في أحرج مرحلة تأسيسية في زمن استبداد النظام، وأحد أوائل من انضموا إلى- رابطة الكتاب والصحفيين- الاتحاد العام- منذ العام 2004. 


كنا ندخل بيته أنا وزملائي أعضاء المنظمة: أكرم كنعو- الشيخ عبدالقادر خزنوي- عبدالرزاق جنكو- توفيق عبدالمجيد من الراحلين- رحمهم الله- ومن الأحياء كوكبة من الزملاء هم من عداد عناويني اليومية، لطالما ذكرتهم، ولا أريد أن أمضي في إحصاء أسمائهم، لئلا أبتعد عن محور المقال الذي شدَّني إلى كتابته، وأنا في حضرة غياب رجل فاضل: رائحة اسم، وضوع حضور، ونقاء سيرة وصفاء سريرة.
ثمة زيارة واحدة من لدن الرجل لبيتنا عندما أصيب ولدنا- كرم- برصاصة في رأسه عشية نوروز2008، ولكن كانت هناك أكثرمن زيارة لرفيقة دربه وأنجالها لبيتنا، لاسيما عندما أكرهت على ترك الوطن تحت وطأة: التضييق الأمني والتفقير الوطني العام والذي كنت على رأس قائمة رموزه، وكانت أسرته من عداد أوفى الأسر مع أهلي، خلال غيابي- من جهة الزيارات- وهوما ظل في ذاكرة أسرتي، وسيظل ذلك، وهو ليس بغريب عن أسرة الراحل الذي سأذكر جوانب سريعة مما عرفته عنه في ظل بضع لقاءات مطولة بيننا، أو أكثر، على هامش اجتماعاتنا التي كان يصرعلى مغادرة غرفة انعقادها- في منزله العامر- ومن بينها" جمعية عامودا- أو كونفرانس عامودا2006- إلا إننا كنا ندعوه للاستمرار، عندما كانت عامة، أو بعد انتهاء الفقرات المضنية متابعة. إذ كلما كنت أزور هذا البيت الكردي مفتوح الأبواب- والمعروف عني أني لا أدخل إلا بيوتاً جد قليلة- أسأل  عبدالله عن والديه، إذ إن أمه- أطال الله عمرها- لاتقل عنه شهامة، ونبلاً وإنسانية، كما من عرفتهم من الأسرة عن قرب، لاسيما من خلال الموقع الشجاع الذي أطلق- كميا كردا- الذي كان ذاكرة لآلاف المقالات وأضعافها من الأخبار والمتابعات في السياسة والثقافة والفن، وكان مركزها: عامودا، إلى جانب مواقع قليلة كانت تدارفي الوطن واكتشاف أمرها كان سيدعوإلىما لايحمد عقباه!
والحديث عن -كميا كردا- يوازي الحديث عن جبهة مقاتلة كما غيره من المواقع  الإلكترونية الشجاعة من داخل الوطن ومن خارجه، ومن كتبوا في هذه المواقع، وأكثر منهم: من أداروها، في ظل شبح الرعب!
أتذكر، في أحد اللقاءات الأولى مع أبي عبدالله، أتيح لي أن أتكلم في أمر ما، وكان بيننا: فرحان جميل إبراهيم آغا وهو نفسه الشاعر دل إيش بافي كاسر- القيادي في البارتي - سابقاً- فحضضت أبا عبدالله للحديث عبر تهيئة مدخل أول للموضوع- كنت على علم بإطلاعه عليه- لأصاب بالدهشة من سعة ثقافته، بعد أن تكلم، ولأعلم خلال تلك الجلسة أنه خريج قسم التاريخ في جامعة بيروت العربية وأنه من أوائل معلمي عامودا، واضطر للتقاعد المبكر بسبب مواقف له، وهذا ماجعلني أعيد المحاولة ذاتها، كأن أسأل عن: طوشة عامودا، أو حريق سينما عامودا، او عن البيوت العامودية الأولى أو عن وجود الدقورية في عامودا أو عن الأسر الأولى التي سكنت عامودا، أو عن يوميات فرنسا في عامودا ومن كان معها أو لم يكن معها، ناهيك عن ذاكرته المتقدة  في سرد تفاصيل ومحطات ثورة الملا مصطفى بارزاني- وهو البارزاني حتى النخاع- أو عن ولادة- ب ك ك- وتحولاته، وآفاق مسيرته، وبعض قراءاته المستقبلية له، وهو ما نراه أمام الأعين، رغم أنه كان يقولها لمن حوله منذ سنوات بعيدة قبل بدء الثورة السورية!
روى لي نجله عبدالله بعيد انتفاضة قامشلو، أن موفد التلفزيون السوري طلب  من أبيه زيارته لإجراء حوار معه، بتوجيه من- رئيس البلدية، آنذاك، فسأل أ. مصطفى ابنه: ما رأيك؟
فقال عبدالله وهو - بدوره- من أنقى وأخلص القوميين المناضلين و المعارضين المستقلين الذين رأيتهم ومن أكثرمن عملوا ويعملون بصمت، وتوقف عن الكتابة وسائر أنشطته بسبب وضع صحي أشل بعض أطرافه وأثر على جسده وحالته النفسية، ليرد عليه أبو شيرين:
وافق، وتكلم بلا أي سقف من الخوف، وذلك بعد أن تشترط عليهم النشر الكامل، بل زيادة أو نقصان!
وكان طاقم الوفد برئاسة د. حسان موازيني، الذي مارس التعليم في مدارس قامشلي، ويذكر اسمه الجيل الأول، طويلاً، والتقاني، بدوره، وأكد: أن وفاءه لماء وخبز الكرد جعله  يتطوع، ويأتي مغامراً، في مهمة تلفزيونية، وأتذكر أن إدارة التلفزيون لم تف بوعدها، ولم تنشر مداخلة الراحل كاملة، رغم أن الوفد ظل في بيت الرجل بضع ساعات في ذلك اليوم، بعد إجراء اللقاء، وتحدث أ. مصطفى- البسيط الشفاف والطيب- بما لايتحمله أي قومجي مناوىء ومتسلط من دفاعه المستميت عن جغرافيا وتاريخ الكرد في المنطقة، وهو صاحب العبارة التي انحفرت في ذاكرتي، عندما واجه أحد العنصريين قائلاً:
مادمت تعترف أننا جبليون فسهل الجبل باحته أو حديقته
-ربما ترجمتها غيردقيقة لأنها من الذاكرة فحسب-
العبارة التي أتأكد أنها، ستأخذ بعد قراءة المقال بعدها، وستتكررعلى الألسنة.
لي عادة، عندما أقابل شخصيات من نوع أبي عبدالله، وتمتلك ذخيرة أو كنزاً من الذكريات والأحدث، أن أطلب منهم تدوين ما في ذاكراتهم، أو كتابة مذكراتهم - كحد أدنى-  وهوما فعلت مع أبي عبدالله، إلا أنه لم يقدم على الكتابة، للأسف، ماجعلنا نخسر ذاكرة نقية، شفافة، عميقة، صادقة، بعكس ذاكرات بعض من إذا تكلموا خمس عبارات "من مذكراتهم" فإن- ستاً منها- أكاذيب، لأنك لم تسمح له بإتمام السادسة!
وإذا كان لعامودا ألف رجل ممن يمتلكون ذاكرة وقادة، عايشت أحداثاً هائلة، وحللتها واستنتجتها، فإن مصطفى دقوري أحد هؤلاء، وإن كان في هذه المدينة مائة رجل ممن تتوافرفيهم هذه الخصلة فهو أحدهم، وإن كان فيها عشرة فهو أحدهم- ، رغم إني أثق برجالات عامودا- الرجال من أمثاله وهم كثر. أكثرمن هذا التحديد-  رجال ماقبل  زمن تمييع الأوادم وشراء ذممهم بعد ترويضهم على طريقة "النمور في يومها العاشر"- ولكم رأينا أمثاله على العهد !!!!
ظاهرة الكتاب من دون كتب، أو الكاتب من دون كتاب، لطالما كانت منذ بداية العالم، أو لنقل: التدوين، ولكم نتفاجأ ونحن الكتاب بأمثال هؤلاء فنعيد حسابات اعتبارنا كتاباً، إلى الدرجة التي قد يمكنني أن أقول: وهناك ظاهرة الكتب بلا كتاب، أو اللاكتب"لمدعي كتابة" أو كتبة مدعين، وها نحن نعيش العصر الذهبي المزيف لهؤلاء!







أتى هذا المقال من Welatê Me
http://www.welateme.net/erebi

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=27733