الموت في زمن كورونا
التاريخ: الأحد 14 اذار 2021
الموضوع: القسم الثقافي



إبراهيم اليوسف

إلى عبدالكريم مجيد فرمان

ما إن أسمع بكلمة "موت" أحدهم، حتى يبلغ الاستنفار في دمي أعلى درجاته، لاسيما فيما يتعلق بمن هم مقربون...، أو أعرفهم، حتى  وإن كانوا خصوماً فأنا ممن لا يريد الموت لألد أعدائي، بل ولا المرض، أو الأذى، ولطالما كنت أسمع بأن هناك من مات أكثر من ميتة، ولعل- الموت في زمن كورونا- هوأحد أشدّ أشكال الموت إيلاماً وأذى، وإن كنت- عادة-  لا أستخدم هذه المفردة، كما تلهج على الألسنة، بل أتهرب من استحضارها، وتوظيفها، معتمداً ما أمكن من بدائل ك"غياب" رحيل" أفول نجم" أفول كوكب" ترجل الفارس عن صهوة جواده" إلخ، فيما أكتب . تحضرني، هذه المقدمة، وأنا في مقام وداع شاعر شعبي جد عزيز، بل وطني فذ، وإنساني نبيل، و مناضل قومي، وقامة امرىء جد اجتماعي ، بيننا تاريخ مطول من عقود، وكان الأكثر وفاء لي- إلى اللحظة الأخيرة- بل الأكثر وفاء لكل من حوله.


 شخصياً، كان الجهة الأولى التي أتوجه إليها، عبرعقود، متى احتجت مشورة ما، أو عوناً معنوياً، فلم يتردد يوماً ما، كما كنت كذلك بالنسبة إليه. أول من يستشيرني في قضاياه الأكثر شخصية، قبل أخوته، لم ننقطع عن بعضنا، إلا في سنوات عملي في الإمارات، وكان بيننا اتصالات هاتفية- أنى توافرالهاتف- ولاسيما بعد وصوله تركيا، ثم مغامرته السندبادية مع ولده: إبراهيم. يعلمني لحظة لحظة، ماذا جرى، ولقد علمت بأنه كان بمثابة- مضافة متنقلة- ليس في محطته في- تركيا- بل وأثناء رحلته فما أكثر هؤلاء الذين انقطعت بهم السبل، فلا أجرة فندق، أو مصاريف معيشة، أو حتى نقل، لافرق، أية كانت جنسيات هؤلاء، فهو ما إن يرهم يستعيد قول الشاعر:   
إذا القوم قالوا: من فتى؟  خلت أني عنيت فلم أكسل ولم أتبلد!
مازلت تحت هول صدمة رحيله، لا أريد أن أبوح ببعض ما انتابني، بعد تلقيّ النبأ في فجر ذلك اليوم الأسود يوم 9-3-2021. يوم رحيل الفنان محمد شيخو، وكنت- للمصادفة- أبحث، ليلتها، وحتى الصباح، في أرشيفي. في ألبومي الإلكتروني، أداري قلقاً مجهولاً قلما أتعرض لمثله، فاستخرجت من خزائنهما ما تيسر من صور مشتركة تجمعنا، على أن أريه إياها في زيارة قريبة مقبلة، كان يرتب لها أبناؤه، وأخواه القادمان من النمسا، ليطمئنا عليه، كما يفعلان، منذ أن التزم سرير المرض، و لطالما كان يؤكد - بالنسبة إلي-  ألا أراه وهو في حاله، إذ إنه كان يعرف مبلغ الألم في نفسي، وأنا أراه على هذه الحال، لما بيننا من  وشائج إرث تاريخي كبير إرث من القربى. من الصداقة، ولعل أخوته كانوا يرونه الأقرب إلي، في الكثيرمن الأمور، بل كنت ألمس ترجمة قرباه مني، وتنفيذه لوصية أبي: "............"!
ما أريد الحديث عنه - هنا- هو مدى إنسانية الرجل، فهو وعم لي- السيد سراج- وكانا بدورهما جد قريبين وعملا في لجنة المصالحات الاجتماعية – من علماني أن أقدم التعازي إلى الناس، ولكم قلت له وهو يسألني أن نمضي معاً لحضور مجلس عزاء في- هولندا- أو بلجيكا- أو في مدينة ألمانية بعيدة: ارحم نفسك ياحاج إنهم يتفهمون بعدنا عنهم إلا أن يومي العطلة الأسبوعية كانا عنده مخصصين لمناسبات الناس أتراحاً وأفراحاً وعيادات مرضى، قبل أن يؤكد السرطان اللئيم حضوره في جسده،  بعد فوات الأوان، ويرمي بهاتفه، ويعلق صفحته الفيسبوكية، ويخصص حياته للطاعة. للعبادة. لقراءة القرآن، لتوجيه أبنائه إلى فعل الخير، ونكاد لانلتقيه إلا بتدبير منه: يدعو عدداً من الأصدقاء معي كي نلتقي رسمياً، في البيت، أو صالة محل واسعة،  وقلما حدثني عن أحوال مرضه: أتعرق. أحتاج إلى مروحة حتى في الشتاء. أعاني من صداع، ويظل يتصل بي الأصدقاء عن حاله، يطلبون عيادته، أعلمه، فيرتب لموعد ما، ولكن على ضوء وضعه الصحي، ولطالما كان يقيم احتفالات جد ضيقة تضمنا. قلة، أو كثرة، بحسب المناسبة!

لم يكن ليمرأسبوع، أو أسبوعان في الأشهرالأخيرة، إلا ويتصل بي، مظهراً بأسه أمام المرض، ولطالما كنت أشجعه: المشروع الفلاني ينتظرنا في قامشلو"، فيبتهج، ولا أدري أكان يجاملني أم لا، وحدث مثل ذلك في آخر مكالمة بيننا قبل  ساعات من نصف غيبوبته الأخيرة والتي كانت تمهيداً للغيبوبة الأخيرة. للغيبوبة الصاعقة، بعد أن انقطع عن الطعام. الشراب. السيروم. بل رفيقته السيكارة التي خذلته، ولعله كان يدرك في أعماقه أنه راحل، وأنه مودع إياي، بالرغم من تطميناتي له، إذ إنه ما إن ودعني  بآخر عبارة قبل أن يقفل الهاتف كان قد لوح بيده مودعاً إياي، من دون أعلم بذلك إلا متأخراً، لأنه لم يكن ليريدني أن أراه عبر خاصية " الفيديو" لئلا أحزن عليه!
!
بالرغم من صراعه مع سرطان البروستات، أتذكر، أنني بعيد رأس السنة السنة تلقيت اتصالاً منه، ينصحني خلاله، وعلى عادته بالحذر، من فيروس - كورونا- وحين أقول" بانتظار أن أزورك بالكمامة حرصاً عليك" يرد علي: أنا شفيت من كورونا. أنا أخاف عليك. أخاف عليكم.  لقد مر بي خفيفاً، بينما إبراهيم لم يشعر به، وكان مصاباً بالفيروس، وحدها أم العيال عانت منه أسبوعين وأكثر!.  حقيقة، فقد كنت أخشى عليه من الفيروس، لعلمي أنه يستقوي- أكثر- على المرضى- إلا أنه استطاع أن يهزمه، ليعود، في الأسابيع التالية، إلى الحرب التقليدية، بعد انتصاره في الحرب الكونية الكبرى، ليودعنا الوداع الأخير!
يسألني في اتصاله الأخير عن الأهل: واحداً واحداً، أجيبه متماسكاً، لأكون قوياً، وألا أفهم رسالته. واثق أنك ستشفى" الطبيب قال لي السرطان انتشر ووصل رأسك"، ولاعلم بعد وفاته أن هذا السرطان مفتت العظام، قد فلق ترقوة كتفه، إلى أن أجبر في أحد المشافي بوساطة" الليزر". لاأطيق المشافي. المشافي بعد كورونا جحيم

بعد وفاة الحاج عبدالكريم فرمان، رحت أسأل نفسي:
هذا الرجل الذي كان يتمتع بشبكة واسعة من العلاقات، مع كرده، وسورييه، بل حتى مع الألمان وغيرهم من أبناء مجتمعه الجديد الذين اجتمعنا في حفل بدعوى - شفائه- وكان قد أقامه كوداعية، وقبل أن تظهر نتائج خزعة المشفى، وكان يتنقل بين ضيوفه- كمن يبتهج بيوم عرسه-  ترى كيف أنه حرم حتى من إلقاء النظرة الأخيرة عليه، إذ كنت وأيهم وأولاده وبعض أقرب مقربي العائلة من الشباب، ولايزيد عددنا عن اثني عشر شخصاً رافقنا جنازته إلى مولهايم، لنلقي النظرة الأخيرة عليه، وأراه وكأنه في نومة- اعتيادية- وهو ثاني وجه راحل أراه في حياتي بعد أبي، بل كيف أنه سيحرم من مرافقة عدد كبير من محبيه لمرافقة جنازته غداً في مطار" دوسلدورف" قبل أن تطير كطرد، في قسم الشحن، لتصل هولير، في طريقها إلى مسقط رأسه في قامشلي. يزور بيته الذي أخرج منه مكرهاً، بسبب ظروف الحرب. البيت الذي سرق منه بعض ماهو أثير بالنسبة إليه "بارودة صيده" ولطالما سأل عن مخطوطاته التي هناك. البيت الذي كان مكان روايتي - شارع الحرية- خلال زيارتي الخيالية إلى -قامشلي-!
لا. لا، بل وكيف نحرم من الاجتماع معاً، في مجلس عزاء لائق بقامته العالية. كيف نحرم من إقامة أربعين لائق به، وهو الذي كان من أعمدة مجالس عزاء أهلنا الراحلين، في الوطن، وهنا؟
يتبع.......







أتى هذا المقال من Welatê me
http://www.welateme.net/cand

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/cand/modules.php?name=News&file=article&sid=7934